المهزلة !
وسط حرارة غير مسبوقة في الارتفاع. مع مقدمات شهر الصوم (رمضان). واحتفاء الناس بالشهر الفضيل. والسهر أمام شاشات التليفزيون الرسمية والفضائية وهى تتبارى في جذب المشاهدين وتقلبهم ذات الشمال وذات اليمين. في سباق محموم على نيل القدر الأكبر من كعكة الإعلانات. تستباح فيه كل أنواع الإغراءات بصرف النظر عن مدى تناسبها للعرض في الشهر الفضيل أو عدم تناسبها.. فقط المهم هو كم فلوس الإعلانات المتدفقة على هذه القناة أو تلك...!
وسط كل هذه الأجواء المشحونة والملتهبة تعرض وزارة التربية والتعليم فيلمها الجديد (المهزلة).
وهو من نوعية الأفلام ذات النهايات المفتوحة التي تترك حسب رؤية المشاهد وذوقه. لكن الجديد في فيلم هذا العام هو تناول قضية قديمة قدم الوزارة نفسها وهى قضية (الغش الجماعى) التي ظهرت واستفحلت في بعض مدارسنا خاصة في الريف. حيث تترك الوزارة المشرفين على عملية الامتحان والمراقبين بلا خدمات أو سكن أو مطاعم يأكلون فيها طوال فترة الامتحان خاصة أنهم يتم انتدابهم من أماكن بعيدة عن مواقع اللجان التي سيراقبونها. وهنا تحديدا كانت تبدأ رحلة الغش الجماعى.
حيث يتقدم أحد وجهاء القرية (مقر لجنة الامتحان) إلى هؤلاء الغرباء القادمين للإشراف على أعمال المراقبة ومن خلفة طابور طويل من الأهالي يحملون سراير ومراوح وثلاجات ومبردات للمياه بالإضافة إلى صوان تحمل ما لذ وطاب من أشهى المأكولات.
يتم تقديمها للغرباء مع بضع كلمات معدودة توجه لهم في صورة النصيحة أنهم لن يجدوا مطاعم أو أماكن لبيع الأطعمة في هذه القرية أو المركز اللهم إلا الفول والطعمية في الصباح الباكر فقط. منهيا النصيحة بالتأكيد على أنهم (باعتبارهم المشرفين على امتحانات أبناء القرية أو المركز) ضيوف على أهل البلد. وطلباتهم جميعها مجابة على الرحب والسعة كما أن الوجبات الساخنة وما لذ وطاب ستكون حاضرة في موعدها ثلاث مرات في اليوم.
وهنا يجد المراقبون أنهم أمام معادلة صعبة تحتاج إلى الحل وهى أن وزارة التربية والتعليم ألقت بهم في هذا المكان بدون خدمات ودون مراعاة لآدميتهم واحتياجاتهم المعيشية اليومية.. في مواجهة نوبة كبيرة من الكرم الزائد عن الحد...وغالبًا ما تنتصر نوبة الكرم وبالتالى يصبحون أسرى لأهالي طلبة وطالبات الثانوية العامة. وهنا تبدأ الخدمات المتبادلة ويبدأ تسريب ورقة الأسئلة إلى خارج لجنة الامتحان وتبدأ ظاهرة استخدام الميكروفونات في الغش الجماعى وتبدأ في سماع صوت جهورى يقول للطلاب ( إجابة السؤال الأول... فاصلة.. ومن أول السطر؟!).
هذه قصة حقيقية تتكرر كل عام دون رغبة حقيقية لمواجهتها من قيادات العملية التعليمية في مصر. وكأننا نهوى دفن رؤوسنا في التراب بدلا من المواجهة بأن المراقب حينما يُترك بلا خدمات يصبح أسير لأى إغراء عملًا بالقاعدة الفقهية التي تقول" إن الضرورات تبيح المحظورات".
أما الجديد هذا العام هو تسريب الامتحان كله قبل أن يبدأ. وهى العملية الهزلية التي هزت الضمير الإنسانى في أول أيام امتحان الثانوية العامة بتسريب مادتى اللغة العربية والتربية الدينية ليلة الامتحان. والقرار بإعادة امتحان المادة الثانية التي لا تدخل ضمن المجموع وإغماض العين وغض الطرف عن المادة الأولى وفاتحة الامتحانات وصاحبة المجموع الأكبر من الدرجات. رغم حالة الفوضى التي بدت في حالة التخبط والتصريحات المتسرعة التي راح يطلقها مسئولو التعليم وقياداته إلا أنهم جميعًا لم يحاولوا الدخول إلى السبب الحقيقى لعملية التسريب التي تمت رغم تأكيدات الهلالى الشربينى بأنه لن يكون هناك تسريب أو غش في امتحان هذا العام !!!
إن السبب الحقيقى يبدأ من مكان يتغافلون النظر أو إلاشارة إليه هو داخل الوزارة نفسها وتحديدا داخل المطبعة التي تطبع الأسئلة. وتحديدًا أكثر دقة لابد من مراجعة كل من يرى الأسئلة في صياغتها النهائية قبل وأثناء وبعد طبعها مباشرةً. وهؤلاء جميعًا يجب أن يكونوا داخل دائرة الاتهام. لأنه وبصراحة ليس المتهم الحقيقى أو الوحيد هذا الذي قام بنشر الأسئلة أو الأجوبة على مواقع التواصل الاجتماعى.. بل إن المتهم الأول هو من قام بسحب نسخة من ورقة الأسئلة وأعطاها إلى الناشر.. ولست أدرى ما هو السبب الحقيقى للتستر على الجاني الحقيقى. ولماذا نهوى دائمًا ترك الأصل والإمساك بالفروع ؟
ابحثوا يا سادة بين الكبار وبين المسئولين عن إعداد الامتحان داخل المطبخ والمطبعة بدلًا من البحث عن كبش فداء يتم تقديمه للرأى العام باعتباره المتهم!!! ولا تدفنوا رؤوسكم في التراب فيتوحش الجانى ونفيق كل عام على تكرار (المهزلة).
