رئيس التحرير
عصام كامل

الاسم إسلام.. والمهنة حداد

اسلام الحداد
اسلام الحداد

مع الأوضاع المعيشية الصعبة في مصر باتت عمالة الأطفال مشهدا عاديا، لكن غير العادى أن ترى طفلا لم يكد يفتح عينيه على الحياة حتى وجد نفسه محاصرا بلهيب وشرر اللحام بإحدى ورش مدينة الباجور بالمنوفية.. يكد ويشقى، وقد يمرض، من أجل «لقمة العيش».


إسلام عبد الله، طفل لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، داخل ورشة حدادة الإخلاص اختار التخلى كرها عن براءة طفولته، من على بعد تشم رائحة اللحام في ملابسه، عندما تنظر إليه يلفت انتباهك وجهه شاحبا معكرا بألوان رصاص اللحام، وعينان أعياهما لهيب اللحام، فهو لا يرتدى نظارة أو جرابا يحميه من الضوء الشديد أو الدخان، بل يمسك الماكينة بيده اليمنى ويضع أصابع يده اليسرى على عينيه.

بخطوات هادئة اقتربنا من إسلام في محل عمله، ورشة الأسطى محمد على، كان إسلام خارج الورشة تحت لهيب الشمس يقوم بلحام جزء من إحدى البوابات الحديدية.

ووسط حالة من الترقب وضع «إسلام» يد اللحام على البوابة، وبخطى خائفة قدما قدما، وأخر الأخرى، جاء إلينا يحاول أن ينظف يده من اللحام، ووجهه الذي يتصبب منه العرق الشديد، قائلا «السلام عليكو».

لم يستغرق كثيرا ليسرد تفاصيل حكاية عمرها أربع سنوات «أنا الأخ الأكبر لشقيقين، أحدهما بالصف الأول، والآخر بالصف الثالث الابتدائى.. الوالد يعمل سائقا على سيارة أجرة، يوما يشتغل ويومين لا، والأم عاملة بمستشفى بالباجور، أي أن العائد المادى بسيط، والنفقات كبيرة على أسرتى.

صعوبات الحياة دفعت إسلام إلى أخذ القرار «فكرت في أن أساعد والدى ووالدتى في المعيشة، لكنهما رفضا في البداية كى أكمل تعليمى وأتمكن من مواصلة نجاحى، إلا أنه مع تفاقم الأزمة، لم يعد والدى يجد الفرصة المناسبة للعمل، وثقل الحمل على والدتى، فلم أجد أمامى إلا باب الورشة المواجه لقريتى بكفر مناوهلة بالباجور، عرضت على صاحب الورشة أن أعمل معه، لكنه في البداية رفض، وطلب منى أن أستمر في الدراسة خاصة أننى كنت من المتفوقين، ومع إصرارى على العمل وافق «.

ليلتها نام إسلام مبكرا حتى لا يتأخر عن الورشة في أول يوم عمل، بعد أن أقنع والدته ونال مباركة حزينة من والده « في أول يوم لى بالورشة قابلنى صاحبها بحب وسعادة، وقال لى أنا هاعلمك صنعة تاكل منها الشهد بس خليك معايا وربنا يسهل، في البداية كنت أقف أشاهد ما يحدث بالورشة، وأقوم بمساعدة الأسطى بإعطائه عدة أو مفتاحا أو سلك كهرباء، أو أسطوانة لحام أو عود لحام، والتي تعلمت أسماءها مع الأيام».

وتابع إسلام: حينها كنت في إجازة الصف الثالث الابتدائى، وقضيت ثلاثة شهور مع صاحب الورشة إلى أن أصبحت أساعده في بعض الأشياء، واتفقت معه أن أقوم بمتابعة الامتحانات في المدرسة، ووافق على ذلك، كى أتمكن من الحصول على شهادة بجانب العمل.

سارحا في ذاكرته، قال « استمررت في العمل طيلة أربع سنوات حتى الآن، كنت في البداية لا أتقاضى إلا راتبا بسيطا يزداد مع الوقت ومع قدرتى على العمل، وبمرور الوقت تدرج راتبى من 30 جنيها إلى أن أصبح حاليا 80 جنيها أسبوعيا، أساعد به والدى وأسرتى في المعيشة، بجانب البقشيش الذي أحصل عليه من بعض الزبائن، فأقوم بتحويشه لأشترى به بعض الملابس لى ولأشقائى، أما الراتب فأعطيه لوالدتى كى تقوم بالإنفاق على المنزل».

لم تمنع مشقة العمل «إسلام» من مواصة الدراسة « أتابع المذاكرة والامتحانات، وفى يوم إجازتى – الأحد – أخصصه للذهاب إلى المدرسة، كى أتمكن من مسايرة زملائى، بالإضافة إلى أن صاحب الورشة يمنحنى إجازة استثنائية أثناء فترة الامتحانات كى أتمكن من المذاكرة وإنهاء الامتحانات، حتى نجحت في الصف الخامس الابتدائى».

إسلام لا يبغى من التعليم غير الشهادة، ويرى مستقبله في صنعته «الصنعة التي تعلمتها سأتمكن من خلالها من جمع الكثير من الأموال التي لن تجعلنى أحتاج إلى أحد، خاصة مع الحالة التي تعيشها البلاد، أرى كل يوم ناس معاها شهادات كثيرة ومش شغالين، أنا دلوقتى أحسن منهم لأنى مش معايا شهادة وشغال وبكسب من عرق جبينى، وإن شاء الله مع الوقت ممكن أفتح ورشة».

وعن المعاناة التي يلاقيها بالورشة قال إسلام « أشاهد أقرانى وزملائى يلعبون ويلهون أمامى كل يوم، وأنا أتعب وأعمل داخل الورشة وخارجها، كى أتمكن من الحصول على لقمة العيش، إلا أننى أصبر، لأن ربنا لا يضيع أجر من أحسن عملا، ففى يوم من الأيام سيكون لى ورشة خاصة، إلى جانب المؤهل الدراسي، فطموحى لا يزيد على دبلوم صنايع قسم لحام، كى أتمكن من تطوير العمل بالورشة، وإن تيسرت الأوضاع سوف أكمل دراستى بكلية الهندسة في نفس التحصص لأحصل على العلم والخبرة».

المعاناة التي خطفت براءة الطفولة من إسلام جعلته يحسد أقرانه، بل ووجه رسالة نصح لهم « عليهم أن يحافظوا على النعم التي بحوزتهم، وأن يتمكنوا من التفوق ويكونوا عند حسن ظن آبائهم، فالظروف دائما ما تجبر الإنسان على ما لا يتمناه مثلما حدث له ولكنها إرادة الله».
الجريدة الرسمية