فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

الست.. عظمة الخلود التي يجهلها الصغار! (1)

هل يمكن بعد كل هذه العقود، وبعد أن استقرت أم كلثوم في وجدان العرب من المحيط إلى الخليج، أن تنجح محاولات صبيانية في تشويه رمز لم تصنعه الدعاية ولا كرّسته الصدفة؟ وهل يُعقل أن تهتز صورة صوتٍ صاغ الوعي الجمعي، وأسهم في بناء المعنى الوطني، أمام معالجة درامية مرتبكة تبحث عن الإثارة أكثر مما تبحث عن الحقيقة؟ 

ثم من يملك أصلًا حق العبث بسيرة بحجم أم كلثوم، ومنح نفسه سلطة إعادة تعريفها وفق مزاج السوق أو حسابات الجوائز أو حسابات هدم رموز مصر وقواها الناعمة؟

أم كلثوم لم تكن يومًا مجرد مطربة ناجحة، ولا مادة خام تصلح لإعادة التدوير كلما أصاب الخيال الفني عطب أو كساد. كانت عبقرية استثنائية، ومشروعًا ثقافيًا وطنيًا متكاملًا، تشكّل بالصوت والانضباط والمعرفة والوعي العام. 

امرأة صنعت نموذجها الخاص دون استعارة، وفرضت حضورها دون صخب، وارتقت بالفن إلى منزلة الرسالة لا الاستهلاك. ولهذا تحديدًا، عجزت الدراما والسينما، حتى الآن، عن تجسيد عظمتها كما ينبغي، ليس لعظمة الرمز فحسب، بل لفقر الأدوات وكسل الرؤية وغياب الضمير المعرفي لدى بعض من تصدّوا للحكاية.

من هنا، لا تبدو محاولة فيلم «الست» سوى دليل جديد على هذا العجز المركّب؛ عجز عن فهم التاريخ، وعجز عن قراءة الشخصية، وتخلٍ واضح عن الحد الأدنى من الأمانة الإنسانية في الحكم على فنانة مثقفة ووطنية مخلصة قلّ أن يجود الزمان بمثلها. 

فالمشكلة لم تكن في ممثلة أو تفصيلة شكلية، بل في منهج كامل اختار ترويج أباطيل وأكاذيب حول الهامش وترك الجوهر، واستبدل السياق الوطني والإنساني بإيحاءات مبتسرة، تُرضي منطق السوق وتغازل الممول وتسيء إلى منطق الحقيقة.

أم كلثوم التي عاشت للفن بصرامة الزاهد، ولم تتعامل مع موهبتها بوصفها سلعة، كانت في الوقت ذاته إنسانة ذات مواقف أخلاقية حاسمة. لم تكن أنانية ولا بخيلة كما يحلو لبعض السرديات الكسولة أن تروّج، بل صاحبة عقل أخلاقي يعرف متى يعطي ومتى يمنع، ومتى تكون القسوة شكلًا من أشكال الرحمة. 

شهادات معاصريها، من مصطفى أمين إلى محمد صبحي، لا تترك مجالًا للشك في أن هذه المرأة كانت كريمة الروح، صارمة القيم، واعية بتأثيرها ومسؤوليتها، وهو ما تجاهلته المعالجة الدرامية عمدًا أو جهلًا.

الأخطر من كل ذلك أن مثل هذه الأعمال لا تُسيء إلى رمز واحد فقط، بل تُعيد تشكيل الوعي الجمعي للأجيال الجديدة على نحو مُشوّه. فحين يُفصل الفن عن سياقه الوطني، وتُختزل الشخصيات الكبرى في صراعات نفسية مصطنعة، يصبح التاريخ نفسه عرضة للتلاعب، وتتحول الذاكرة الثقافية إلى مادة قابلة للقصّ والتركيب وفق الطلب.

القضية، إذن، أبعد من فيلم وأقرب إلى معركة وعي حقيقية: وعي بقيمة الرموز، وبخطورة تسليمها لمنطق الاستسهال، وبمسؤولية الدولة والمجتمع معًا في حماية ذاكرتهم الثقافية. أم كلثوم ليست قديسة معصومة، لكنها أيضًا ليست شخصية عابرة يمكن تفكيكها بسطحية أو إعادة تقديمها بانتقائية فجّة.

لقد فشلت السينما والدراما حتى الآن في الإمساك بجوهر عبقرية أم كلثوم، لا لأن العبقرية عصيّة، بل لأن المقاربة كانت دائمًا أقل من القامة. وما نحتاجه اليوم ليس دفاعًا عاطفيًا، بل دفاع عقلاني عن المعنى، وعن الحق في تاريخ يُروى بصدق، ورمز يُقدَّم بوعي، وفن يحترم نفسه قبل أن يطلب تصفيق الجمهور.

إنها الست أم كلثوم. التي تقلَّد ولا تقلِّد أحدًا.