محمياتنا الطبيعية في خطر
في مصر اليوم أكثر من 30 محمية طبيعية تمثل نحو 15% من مساحة البلاد، لكنها تعاني غيابًا واضحًا للتخطيط، وتداخل السلطات، وتآكل حدودها بفعل التعديات، وافتقارها إلى أبسط مقومات الإدارة العلمية الحديثة.
الأخطر من ذلك أن الحديث عن الاستثمار فيها يُطرح الآن من دون وجود بنك معلومات وطني شامل يُحدد مواردها، قيمتها البيئية، أو قدرتها على التحمل.
فمؤخراً خرجت الدكتورة منال عوض، وزيرة التنمية المحلية والقائم بأعمال وزير البيئة، لتعلن عن بحث فرص الاستثمار المستدام داخل المحميات الطبيعية، كما التقت أحد المستثمرين لبحث فرض تعزيز الاستثمار داخل محمياتنا الطبيعية، مؤكدة أن الدولة تضع الاستثمار البيئي على قائمة أولوياتها، وأن هذا الاستثمار سيكون وفق ضوابط صارمة تضمن حماية النظم البيئية والحفاظ على الموارد الطبيعية من أي ضغوط أو تأثيرات سلبية.
الحكومة لا تعرف الأرقام ولا ترى الواقع
منذ سنوات، تتباهى وزارة البيئة بأنها تملك خطة لتطوير المحميات وتحديث بنيتها السياحية، لكن الواقع يروي حكاية مختلفة؛ ففي محميات سيناء، تمتد المخالفات من البناء داخل الحرم البيئي إلى التعدي على الشواطئ البحرية.
وفي محميات الفيوم والواحات، اختفت مساحات كاملة بفعل التعدين والأنشطة البشرية الجائرة، كما أن التمويل محدود، وعدد الحراس أقل من المطلوب بعشرات المرات، والأدوات التقنية شبه غائبة، فكيف يمكن حماية إرث طبيعي بهذا الخلل الحكومي في التعامل مع كنوزنا الطبيعية؟
الخلل لا يقف عند نقص الإمكانات، بل يتجاوزها إلى غياب الرؤية الوطنية: لا توجد قاعدة بيانات دقيقة عن التنوع البيولوجي، ولا سجل محدَّث للأنواع المهددة بالانقراض، ولا حصر حقيقي لحدود المحميات ومساحاتها بعد التعديات.. باختصار، مصر لا تملك خريطة حقيقية لمحمياتها فكيف نسمح بطرحها للاستثمار ونحن لا نعرف حتى ما تبقى منها؟
الاستثمار التجاري.. شعار للتنمية أم بوابة للبيع؟
الطرح الحكومي يتحدث عن الاستثمار المستدام في المحميات كمدخل لزيادة الدخل القومي وتنشيط السياحة البيئية، لكنَّ اللغة المستخدمة في الخطاب الرسمي تكشف عن نية مختلفة، إذ يجري الحديث عن استغلال الشواطئ، وإنشاء منتجعات بيئية وتأجير مناطق للمستثمرين.. هذه المصطلحات -وإن بدت براقة- تحمل خطر تحويل المحميات من فضاءات عامة إلى ممتلكات خاصة مغلقة.
القضية ليست رفض التنمية أو السياحة البيئية، بل الخوف من أن يتحول الاستثمار إلى خصخصة مقنعة للطبيعة وللشواطئ، تحت شعارات براقة، فإذا كانت المحميات تعاني غياب الرقابة وضعف الكوادر الفنية الآن، فكيف يمكن مراقبة المستثمرين حين يسيطرون على مناطق شاسعة باسم التطوير؟
التاريخ الحديث يقدم أمثلة مؤلمة: في بعض المحميات، سمح الاستثمار غير المنضبط بتسطيح الكثبان الرملية وردم الشعاب المرجانية لبناء منشآت سياحية، ما أدى إلى تدمير منظومات بيئية استغرق تكوينها آلاف السنين، فهل نعيد الخطأ ذاته في كل مرة؟
البيئة ليست سلعة
حين تُطرح الطبيعة للبيع، يفقد الوطن أحد أهم مقوماته الاستراتيجية؛ فالمحميات ليست مجرد أراضٍ أو مناظر طبيعية، بل رأسمال بيئي له قيمة علمية وجيولوجية واقتصادية هائلة، شرط الحفاظ عليه لا استنزافه.
في دول كثيرة، المحميات هي مراكز بحوث وتعليم وتربية بيئية ومشروعات علمية لإنتاج المعرفة، أما في مصر، فهي تُعامل كمناطق هامشية، وفي غياب القواعد والشفافية والرقابة، قد يتحول الاستثمار التجاري فيها إلى نهب منظم للموارد.
أين المعلومات؟
لا يوجد في مصر حتى الآن بنك معلومات شامل للمحميات.. ولا قاعدة بيانات موحدة، ولا خرائط رقمية حديثة، ولا توثيق محدث للأنواع الحيوانية والنباتية.. كل جهة تعمل بمعزل عن الأخرى، والبيانات إن وُجدت فهي مشتتة بين الوزارات والمراكز البحثية.
من دون قاعدة معلومات، لا يمكن اتخاذ قرار علمي واحد، فكيف تُحدد حدود الاستثمار؟ وكيف تُقيم الأثر البيئي؟ وكيف تراقب الالتزام؟ الاستثمار في الظلام هو وصف دقيق لما يجري الآن، والنتيجة المتوقعة: تدمير ممنهج باسم التنمية.
أزمة الضمير البيئي
تتجاوز المشكلة حدود المحميات إلى غياب ثقافة الوعي البيئي في المجتمع.. لا تُدرَّس البيئة كقيمة وطنية، ولا تُعامل المحميات كجزء من السيادة الوطنية.. توسع عمراني يلتهم الشواطئ، تعدين عشوائي في المناطق الجبلية، وصيد جائر في البيئات البحرية.
ثم تأتي الحكومة لتقول إنها ستطرح المحميات للاستثمار مع ضوابط لحماية البيئة، أية مفارقة هذه؟
المطلوب ليس بيع الطبيعة أو منحها للاستثمار التجاري أو عطاء المستثمرين حق الانتفاع بها، بل إصلاح الإدارة، وتأهيل الكوادر، وإنشاء بنية معلوماتية حقيقية، وتحويل المحميات إلى مؤسسات علمية وثقافية وسياحية متكاملة.. أما تحويلها إلى مشروعات ربحية تحت لافتة الاستثمار فهو انتحار بيئي مكتمل الأركان.
دروس من العالم
تجارب الدول التي نجحت في إدارة محمياتها تقول بوضوح: الاستثمار ممكن، لكنه يخضع لقواعد صارمة وشفافية مطلقة.. في كينيا مثلًا، تدار المحميات عبر مجالس علمية مستقلة تشارك فيها الجامعات والمجتمع المدني، وفي كوستاريكا، تُعد المحميات مصدر دخل قومي ضخم بفضل السياحة البيئية المنظمة التي تراعي الطاقة الاستيعابية لكل موقع، وفي السعودية هناك العديد من المحميات الطبيعية التي يشرف عليها مجلس المحميات الملكية والذي يتبع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
أما في مصر، فلا مجال للمقارنة ما دمنا نفتقر إلى الأساس العلمي والرقابي، بشكل بات يؤكد أن إدارة المحميات هي أكبر من وزارة البيئة ذاتها، وتحتاج إلى هيئة أو مجلس علمي تشارك فيه الجامعات والمراكز البحثية المختصة والجهات الرسمية ذات العلاقة.
الأمن القومي في ثوب بيئي
ما يغيب عن كثيرين أن المحميات الطبيعية ليست مجرد شأن بيئي، بل قضية أمن قومي؛ فهي خطوط دفاع طبيعية ضد التصحر، والفيضانات، وارتفاع درجات الحرارة، وتراجع المياه الجوفية.
الإضرار بها أو تدميرها يعني إضعاف دور الدولة في مواجهة الكوارث المناخية، وإذا كان الأمن المائي والغذائي يمثل أولوية وطنية، فإن الأمن البيئي لا يقل أهمية، لأنه هو ما يحافظ على قدرة الأرض على الحياة والإنتاج.
بين الشفافية والمساءلة
الطريق إلى إصلاح ملف المحميات لا يبدأ من المستثمرين، بل من إرادة سياسية حقيقية تضع البيئة في قلب أولويات الدولة.. والمطلوب بوضوح إنشاء هيئة وطنية مستقلة للمحميات الطبيعية تتبع رئاسة الوزراء، تضم علماء البيئة والجيولوجيا والاقتصاد والسياحة، وتُشرف على إدارة الموارد وتحديث البيانات وطرح أي مشروعات بشفافية.
كما يجب سنُّ قانون جديد يُجرم التعدي أو الاستغلال التجاري غير المنضبط للمحميات، ويُلزم الجهات بالإفصاح الكامل عن أي مشروعات داخلها.
والخلاصة أنه إذا لم نضع الآن خطوطًا حمراء تحمي البيئة المصرية، فلن نجد غدًا ما نحميه أصلًا!