عباقرة ولكن مجهولون، عبدالله بن الصديق الغماري.. شيخ الحديث الشريف وهذه تفاصيل المؤامرة الصهيونية ضده
على مر التاريخ الإسلامي لمعت أسماء عباقرة في مختلف المجالات مثل: ابن الخطاب، والصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، والبخاري، والشافعي، وابن حنبل، ابن سينا.. ابن رشد.. الكندي.. الفارابي.. الخوارزمي.. الطبري.. أبو حامد الغزالي.. البوصيري.. حتى محمد عبده.. المراغي.. المنفلوطي.. رفاعة الطهطاوي.. طه حسين.. العقاد.. أحمد شوقي.. عبد الحليم محمود.. محمد رفعت.. النقشبندي.. الحصري.. عبد الباسط.. وغيرهم، في العصر الحديث.
لكن هناك أسماء مهمة كان لها بصماتها القوية على العلم والحضارة، ولا يكاد يعرفها أحد، وفي هذه الحلقات نتناول سير بعض هؤلاء العباقرة المجهولين.
عبدالله بن الصديق الغماري، شيخ الحديث الشريف وهذه تفاصيل المؤامرة الصهيونية ضده
اعتبره كثير من العلماء والمؤرخين شيخ الحديث الشريف في هذا العصر.. هو الشريف الإمام الحجة الفقيه الأصولي المحدث فضيلة الشيخ أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق بن أحمد بن قاسم الغماري الحسني الإدريسي الطنجي.
وهو من أكابر علماء علم الحديث الشريف، ويصل نسبه إلى سيدنا الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وهو شيخ الطريقة الصديقية الشاذلية التي أسسها أبوه، ومن أشهر مشايخها في مصر الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية الأسبق، وعضو هيئة كبار العلماء.

مولده ونشأته
كان مولده بمدينة طنجة سنة 1328هـ/ 1910م، وينتسب إلى أسرة بن الصديق العالمة الشريفة، وهي أسرة إدريسية النسب.
بدأ عبد الله بن الصديق الغماري في تلقى تعليمه الأولي في المغرب بالزاوية الصديقية على الفقيهين محمد البراق الأنجري، ومحمد الأندلسي المصوري، وأخذ العلوم الشرعية واللغوية عن شقيقه أحمد، وعن خاله أحمد بن عجيبة.
سافر سنة 1343هـ/1924م إلى فاس لاستكمال دراسته، فالتحق بجامع القرويين، وأخذ عن شيوخه، كالشيخ أحمد القادري، وشيخ الجماعة عبد الله الفضيلي، والشيخ الحسين العراقي، وغيرهم.
دراسته بالأزهر الشريف
ومن العلوم التي درسها الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري بجامع القرويين: علوم العربية والفقه المالكي، وعلم الفرائض والتوحيد والمنطق، ثم رجع إلى طنجة سنة 1346هـ/1927م، فدرس على والده الشيخ محمد بن الصديق النحو والبلاغة والفقه المالكي، ثم التحق بمصر فدرس بالجامع الأزهر سنة 1349هـ/1930م، وأخذ عن عدد كبير من العلماء، من أمثال الشيخ محمد حسنين مخلوف، والشيخ محمد بخيت المطيعي، وغيرهم.. وشهد له الشيخ محمود شلتوت، بالقول: "نحن نهنئ الأزهر والشهادة الأزهرية بحصول الشيخ عبد الله عليها".

ونال إجازات عدد كبير من العلماء، كما حصل على شهادة العالمية للغرباء سنة 1352هـ/ 1933م، وعلى الشهادة العالمية الأزهرية سنة1361هـ/1942م.
عُيِّنَ الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري مدرسًا للعلوم الشرعية بالجامع الأزهر الشريف بصفة تطوعية، وعينته وزارة الأوقاف المصرية مفتشًا للدروس التي تلقى في الصحيحين بمساجدها.
العودة إلى المغرب
قام بنشاطات علمية متعددة بمصر، إلى أن رجع إلى المغرب عام 1390هـ/1970م.
وبعد مغادرته مصر إلى بلده المغرب، استقر بمدينة طنجة خطيبًا بالزاوية الصديقية، ومدرسًا للعلوم الشرعية بها، وأخذ عنه عددٌ وافرٌ من طلبة العلم، ولم يبق قطرٌ إسلاميٌّ إلا وله فيه تلاميذ.
كان الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري، رحمه الله، عالمًا يندر أن يكون هناك مثله أو أن يضاهيه أحد في العلوم الشرعية، واللغوية، والمنطق، محيطًا بدقائقها، ومستحضرًا للنصوص وأقوال العلماء، وحججهم في المسائل المختلفة، مع سَعة الاطلاع على أدلة المذاهب الفقهية الإسلامية والعقائدية.
حافظ العصر
وتمتع بذاكرة قوية وسرعة في البديهة، وقد وصل في علم الحديث تحديدا، إلى درجة عالية، حتى اعتُبر حافظ العصر، إذ كان يحفظ ويستظهر أكثر من عشرة آلاف حديث بأسانيدها، ومعرفة رجالها.
وكانت للشيخ عبد الله بن الصديق الغماري، رحمه الله، جهود مشكورة في الدعوة إلى الله تعالى داخل المغرب وخارجه، ومن ذلك زيارته للمسلمين الزنوج بالولايات المتحدة الأمريكية، وتأثيره البالغ فيهم، حتى إنه بعد مقابلته للملاكم العالمي محمد علي كلاي، نقلت مجلة الـ"فيجارو" عن هذا الأخير قوله: "أتمنى أن تكون لي روحٌ مثل روح الشيخ عبد الله بن الصديق".
ولحافظته وذاكرته ولشدة غزارة علمه، كان إذا تناول شرح حديث مثلا ثم أعاده ثانية، تسمع منه فوائد وفرائد لم تسمعها منه في حديثه الأول، وهكذا كلما كرر الشرح، وكان إذا أجابك عن مسألة في أي فن تظن أنه قرأها الآن، ولا يعرف غيرها.
ورغم امتيازه في أمور شتى تميز بسمو ودماثة الخلق، وشدة التواضع، مع الزهد في الشهوات، والعزوف عن مغريات الدنيا وملذاتها، مربيا ومعلما وناصحا وداعيا محبيه وتلامذته ومريديه من أجل التحلي بالقيم التي رفعت مقامه.
محنته
وككبار العلماء في مختلف العصور، تعرض الشيخ لمحنة مروعة، فقد تآمرت الصهيونية العالمية على الشيخ عبدالله بن الصديق، وأُدخل السجن، عام 1959م، وقضى فيه عشر سنوات، فلم يخرج منه إلا عام 1969م.
واستمرت المؤامرة حتى أصدروا في حقه هذه المرة حكما بالإعدام، نظرا لنبوغه ولإشعاعه العلمي المتزايد في الأوساط المصرية الشعبية والنخبوية.. ومن كرامات الشيخ عبدالله بن الصديق، أنه أقسم للصحفيين بعد صدور الحكم ضده، أنه "لن يعدم"، وقد كان.
أما القاضي الظالم الذي أصدر حكم الإعدام ضده فقد تخلص من حياته، بأن ألقى بنفسه من فوق سطح البناية التي كان يقيم بها.
وفي عام 1389هـ- 1970م، استقبلته طنجة عن بكرة أبيها، مشدة: "طلع البدر علينا... مرحبا يا خير داع".
مؤلفاته
تذخر المكتبة الإسلامية بالعديد من كنبه، حتى بلغت تآليفه، رحمه الله، المائة عنوان، منها: "بدع التفاسير"، و"جواهر البيان في تناسب القرآن"، و"تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنة"، و"شرح الأجرومية" الذي اعتبر أوسع شرح لها، وغيرها، وحقق الكثير من النصوص التراثية، منها "المقاصد الحسنة" للسخاوي، وأخلاق النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لأبي الشيخ الأصبهاني، و"تنزيه الشريعة" لابن عراق.
أخذ الطريق الصوفي عن والده الشيخ الإمام أبى عبد الله محمد بن الصِّدِّيق بن أحمد بن عبد المؤمن الغُماري الشريف الحسني، وخلف والده في المشيخة.
وفاته
توفي الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري، رحمه الله، بطنجة في يوم الخميس 19شعبان 1413هـ، الموافق 11 فبراير 1993م.
ودفن بالزاوية الصديقية.