صحافة القارئ وملاذه الآمن! (2)
139 جمهورية أو قسم الخدمات الصحفية المتميزة بجريدة الجمهورية تجربة تستحق أن تسجل لعل صحافتنا تستفيد منها، إذ كانت صحيفة الجمهورية سباقة فيها. وإن اختفت بعد أحداث يناير بفعل فاعل لم يدرك قيمتها.
لم يكن 139 جمهورية مجرد رقم يُطلب، ولا خطًّا ساخنًا يُدوَّن في هامش إعلان، بل كان ظاهرة صحفية سبقت زمنها، وتجربة وُلدت من إدراك مبكر لمعنى أن تكون الصحافة قريبة من الناس لا متعالية عليهم، ومنحازة للشارع لا متحصنة خلف المكاتب.
في لحظة كانت فيها الشكوى تبحث عن أذن تسمعها، والمواطن عن باب مفتوح، جاء هذا الرقم ليكسر الحواجز بين الناس وجريدتهم، وبين الوجع اليومي وصانع القرار. صار الهاتف منبرًا، وصارت المكالمة الأولى بداية حل، لا مجرد شكوى عابرة تُنسى في زحام الكلام.
نجاح 139 جمهورية لم يكن صدفة عابرة، بل ثمرة رؤية آمنت بأن الصحافة لا تُقاس بعدد الصفحات ولا بضجيج العناوين، وإنما بقدرتها على لمس الألم الإنساني وتحويله إلى فعل مؤثر.
في وقت وجيز، تحول الرقم المختصر إلى عنوان للثقة في الوعي العام؛ يعرفه البسطاء كما يعرفه المسؤولون، ويتداوله الناس بوصفه الطريق الأقصر للإنصاف.
كانت الشكوى تُرفع، فتُصاغ خبرًا، ثم تتحول متابعةً، ثم تنتهي استجابةً، في دورة مهنية أعادت للصحافة معناها الوظيفي والإنساني معًا.
ولا أدري، حتى هذه اللحظة، لماذا انطفأ وهج تلك التجربة بعد أحداث 2011، ولا أجد تفسيرًا مقنعًا لغيابها، في زمنٍ بلغ فيه الفضاء الرقمي ذروة اتساعه، وتحوّلت فيه الهواتف إلى امتدادٍ لأرواح الناس لا مجرد أدوات اتصال.
من الصعب أن أستوعب ألا تضم كل مؤسسة صحفية اليوم رقمًا مختصرًا، علامة فارقة، وبوابة إنسانية مفتوحة على مصراعيها.
فوجود هذا الرقم لا ينافس الخطوط الساخنة لأجهزة الدولة، ولا ينتقص من دور منظومة الشكاوى الحكومية، بل يدعمها ويمنحها عمقًا إنسانيًا، ويُهدي صانع القرار قراءة أكثر صدقًا لما يجري على الأرض، بعيدًا عن برودة التقارير الروتينية وجفاف الجداول الرسمية.
لقد كان 139 جمهورية شاهدًا حيًّا على أن الصحافة، حين تقترب من الناس، وتؤمن بأن الهاتف قد يكون أداة عدالة لا مجرد وسيلة تواصل، تستطيع أن تسبق زمنها بخطوة.
كانت تجربة أكدت أن الإعلام ليس ناقلًا محايدًا للأحداث فحسب، بل شريكًا في الحل، ووسيطًا رحيمًا بين المواطن ومؤسسات الدولة، يخفف الاحتقان، ويصنع الأمل، ويرمم ما تصدّع في جدار الثقة.
ولم يتوقف الدور عند حدود الصحافة الخدمية، بل تمدد إلى فضاء أرحب من الفعل الإنساني والاجتماعي. تطورت التجربة لتشمل مبادرات خيرية موثقة، ساهمت في علاج مرضى، وتزويج يتامى، وتفريج كرب غارمين.
وتعاظمت الثقة إلى الحد الذي جعل مؤسسات كبرى، ورجال أعمال، ووزارات، يشاركون في دعم هذه الجهود، إيمانًا منهم بأن الصحافة، حين تخلص للناس، تتحول إلى قوة بناء حقيقية، لا أداة نقد أو تنوير فقط.
وكان الرقم المختصر، بثلاثة أرقام لا أكثر، سرًّا من أسرار النجاح؛ سهل الحفظ، سريع التداول، قريبًا من الذاكرة الشعبية، كأنه جزء من اللغة اليومية للناس. ومعه تعمّق الدور المجتمعي للجريدة، واتسع انتشارها، وتحوَّل الخط الساخن إلى علامة فارقة في تاريخ الصحافة المصرية والعربية، وإلى تجربة يُشار إليها بوصفها نموذجًا متقدمًا لدور الإعلام في خدمة المجتمع.
غير أن هذا الضوء، الذي ظل مشتعلًا لسنوات، خفت بعد 2011، وتوقف الرنين الذي كان يحمل نبض الشارع وهمس الناس وأنينهم.
اليوم، ومع طفرة رقمية غير مسبوقة، يبدو غياب مثل هذه المبادرات أكثر إيلامًا. خسر المواطن قناة قريبة تُنصت إليه بلا تعالٍ، وخسرت الصحافة أحد أنبل أدوارها الجماهيرية، وخسرت الدولة أداة ذكية لاستشعار الرأي العام الحقيقي، لا ذلك المصقول في المكاتب.
ويبقى 139 جمهورية شاهدًا على أن الصحافة، حين تنحاز للناس، وتؤمن بأن الهاتف قد يكون بوابة للعدل، قادرة على أن تسبق عصرها.. وأن تترك خلفها سؤالًا مفتوحًا، مؤلمًا وملحًا: هل يعود يومًا هذا الصوت، ليذكّرنا بأن أقصر الطرق إلى الثقة يبدأ أحيانًا بثلاثة أرقام، قادرة -حين تؤمن بها العقول- على صناعة تاريخ مختلف؟