عباقرة ولكن مجهولون.. أحمد رؤوف حسن القادري مفتي العروبة وقاضي قضاة راشيا
على مر التاريخ الإسلامي لمعت أسماء عباقرة في مختلف المجالات مثل: عمر ابن الخطاب، وأبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، والبخاري، والشافعي، وابن حنبل، ابن سينا.. ابن رشد.. الكندي.. الفارابي.. الخوارزمي.. الطبري.. أبو حامد الغزالي.. البوصيري.. حتى محمد عبده.. المراغي.. المنفلوطي.. رفاعة الطهطاوي.. طه حسين.. العقاد.. أحمد شوقي.. عبد الحليم محمود.. محمد رفعت.. النقشبندي.. الحصري.. عبد الباسط.. وغيرهم، في العصر الحديث.
لكن هناك أسماء مهمة كان لها بصماتها القوية على العلم والحضارة، ولا يكاد يعرفها أحد، وفي هذه الحلقات نتناول سير بعض هؤلاء العباقرة المجهولين.
مفتي العروبة وقاضي قضاة راشيا
أحمد رؤوف حسن القادري
مولده ونشأته
ولد سماحة مفتي راشيا الشيخ أحمد رؤوف القادري "أبو أدهم" في بلدة البيرة، قضاء راشيا، بلبنان، سنة 1929م.
تلقى تعليمه الشرعي في كلية فاروق الأول "أزهر لبنان حاليًا"، وحاز إجازة في الأدب العربي من جامعة الأزهر الشريف.
عاد إلى لبنان في الستينيات وانتُخب مفتيًا لقضاء راشيا، وكُلف بإدارة أوقاف البقاع.
درس الأدب العربي في جامعة القاهرة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وقتها كانت القاهرة أيامها تعيش أزهى عصورها الفكرية والسياسية والثقافية المتنوّعة، والعروض المسرحية والمعارض الفنية وحفلات الموسيقى.
ومن أساتذته الدكتورة سهير القلماوي، أول امرأة مصرية تحصل على الماجستير والدكتوراه في الآداب لأعمالها في الأدب العربي.
وكانت الدكتورة سهير القلماوي تسمي تلميذها أحمد رؤوف القادري «الشامي»، وهو اللّقب الذي كان المصريون يطلقونه على مواطني لبنان وسوريا وفلسطين.
ومن زملاء دفعته في كلية الآداب في جامعة القاهرة؛ الأديب رجاء النقاش، والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، والشاعر السوداني جيلي عبد الرّحمن، والسينمائية اللبنانية نبيهة لطفي.
وبالرغم من صداقته لهذه المجموعة، إلا أنه كان يختلف عنهم في طريقتهم في ممارسة الحياة. فهم كانوا حين يخرجون من قاعات المحاضرات في كلية الآداب في جامعة القاهرة يتوجّهون إلى المقاهي، التي كانت غالبًا ما تكون ملتقى للشعراء والأدباء والمفكرين، يراقبون النقاشات التي كانت تدور فيها حول مختلف المناحي الثقافية.
ومن بعد المقاهي كانوا يتوجهون إلى الصحف والمجلات، وبالذات مكاتب «روز اليوسف» و«صباح الخير» و«آخر ساعة» التي كنت تحتضن في مكاتبها أحسن مبدعي مصر ممن يعملون كمصممين للمجلة، ورسامي كاريكاتير لها، وشعراء بالعامية المصرية وشعراء بالعربية الفصحى… وغيرهم... وكان ينتهي يوم هؤلاء الزملاء في تراس فندق شبرد ليسمعوا عزفًا على البيانو ينبعث من الردهة الرئيسية للفندق يبقيهم حتى ساعات الصباح الأولى.
أما الشيخ أحمد رؤوف القادري فلم يكن يهتمّ بتلك النشاطات التي يبذلها هؤلاء الرفاق، وكان يفضّل الاكتفاء بالتنقّل بين قاعة المحاضرات ومكتبة الجامعة في الكلية. ذلك لأن وضع أهله المادي لم يكن يحتمل أي رسوب في الجامعة، الأمر الذي كان يحاول تفاديه بالتركيز على الدراسة والاجتهاد ليصل إلى هدفه ومبتغى أهله.
ولعله لهذا السبب، لم يأخذ موقعًا له على الصعيد الأدبي كما أخذ زملاؤه، ذلك لأن الدراسة الأدبية كما تبيّن له ليس من شأنها وحدها تكوين كيان أدبي.
إعجابه بجمال عبد الناصر
على الصعيد السياسي، كان أحمد رؤوف القادري مؤيّدًا بشدة لحركة التحرّر الوطني العربية بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر.
ثم صدمته هزيمة يونيو عام 1967، وقد اعتبرها هزيمة شخصية له. وقد كانت هذه الهزيمة أولى مؤشرات عدم رغبته بالاستمرار في هذه الحياة.
وأجرى في غرفة مكتبه في البيت بعد هذه الهزيمة تغييرات جعلته يعيش حياة فيها الكثير من التقشّف والزهد والتصوّف، وكأنه صار يعذّب نفسه عن خطيئة هزيمة العرب، حتى أنه توقّف عن المطالبة بأي شيء في هذه الدنيا.
وهكذا توقف التاريخ عند وقوع الهزيمة وتوقفت عقارب الزمن وابتدأ من وقتها يتّخذ مواقفه السياسية على ضوئها.
تغيّرت نظرته للعالم الذي كان قابلًا للعيش قبل هزيمة يونيو 1967.
مع المقاومة الفلسطينية
وبقيت الأمور على تلك الحال إلى أن نشأت المقاومة الفلسطينية وتحوّلت من إعلان خجول على قيامها عام 1965 إلى حقيقة واقعة في صلب الحياة اليومية.
نشوء المقاومة الفلسطينية ولّد لديه شحنات من الأمل بتحقيق نجاحات وعدت بها في بيان إطلاقها.
أيّد المقاومة الفلسطينية كما يجب أن يكون التأييد. كان يؤمن بأنه لا يجب ترك هؤلاء الرجال وحيدين خلف بنادقهم.
وحين انتقلت المقاومة الفلسطينية إلى لبنان عام 1970 بعدما أُخرجت من الأردن، أدرك أحمد رؤوف القادري أن هناك شمسًا جديدة تسطع في الأفق العربي، ورأى أنها شمس واعدة.
شارك في مختلف الأعمال التيتم تكليفه بها، بالرغم من أن قيادة الثورة الفلسطينية كانت تفضّل أن يبقى دوره في الإطار الديني كما هو، شعلة متّقدة قادرة على تحريك المصلين في خطابات صلاة الجمعة.
أيضا قام بحمل السلاح في عمليات عسكرية شارك بتنفيذها ضدّ الإسرائيليين المحتلين، حتى أنه كان يشرك في بعض العمليات ولديه «أدهم» و«أيمن»، بالرغم من أنهما كانا في بدايات سنوات المراهقة.
يحكي أحد أصدقائه، قائلا: في أحد الأيام زرته ليلًا في منزله في تعلبايا فوجدته في حديقة البيت جالسا على كرسي وهو يحمل رشاشًا في يده. لست أذكر ما إذا كان ولداه الطفلان أدهم وأيمن كانا يحملان أيضًا سلاحا كل على يده أم لا. سألته عن السبب في حمله السلاح في حين أنه لا توجد بوادر معركة، فأشار بأصابع يده اليمنى إلى البيت المواجه لبيته، وقال لي: "أبو عمار (ياسر عرفات) نائم الآن وأنا أحرسه". كانت تلك أول مرة أعرف فيها أن أبا عمار قد استأجر بيتًا له مواجهًا لبيت «أبي أدهم».
وبعد أن تطلّعت إلى البيت الذي أشار إليه سألته: هل يعرف أبو عمار بأنك تسهر على أمنه، خصوصًا أن البيت المشار إليه لم يكن علنيًا ولا توجد بالتالي حوله مظاهر مسلّحة؟ يومها أجابني الشيخ رؤوف قائلًا: إن هذا غير مهمّ.
موقفه من الصراعات الطائفية في لبنان
ودينيا، وعلى الرغم من الصراعات الطائفية في لبنان، فلم يكن أحمد رؤوف القادري طائفيًا، وقد ربطته وشائج صداقة مع عديد من غير المسلمين من مسيحيين عرب وأرمن الذين كانوا جيرانًا له في بلدة تعلبايا حيث يقيم.
وكان المرحوم أحمد رؤوف القادري يعتبرهم متساوين مع باقي أبناء الطوائف الأخرى في البلاد وشركاء نهائيين في هذا الوطن.
ربطته صداقة متينة بالمطران نيفن سابا ساعدته على حلّ إشكالات واجهته بمعرض ممارسته عمله، سواء كمفتي راشيا أم كمدير لأوقاف البقاع، فالمطران نيفن سابا كان رجلًا كبير السن عركته التجارب، في حين أن المرحوم أحمد رؤوف القادري كان وقتها في ريعان الشباب، ولم يكن بسبب عمره الصغير يستطيع أن يواجه المشاكل المختلفة، فكانت نصائح المطران نيفن سابا ما جعلته يتجاوز تلك المشاكل. وكانت مشاهدتهما من قبل عامة الناس يجوبان شوارع زحلة وتعلبايا معًا، كلٌّ في لباسه الديني، تترك أثرًا طيبًا في نفوس المواطنين من أن البلد بخير، وأن صداقة رجلي الإسلام والمسيحية هذين هي مؤشّر لما يجب أن تكون عليه حال المدينة.
وفاته
وبعد مسيرة طويلة من الكفاح الوطني، توفي مفتي العروبة وقاضي راشيا أحمد رؤوف حسن القادري، يوم الأحد 28 نوفمبر 2010. ودفن في مقبرة قريته «البيرة» بالبقاع الغربي.
ولأنه كان من هؤلاء الرجال الذين نقرأ عنهم ولا نلتقي بهم، فقد حرص أحد رجال الدين على القول أثناء التأبين: "أحمد رؤوف القادري عاش فقيرًا ومات فقيرًا".