بين العقاد وشكوكو.. لمن يصفق الجمهور؟!
منذ آلاف السنين، كما قال مصطفى محمود، والعالم على حاله: الراقصة تكسب أكثر من الكاتب، والطبّال أكثر من الخبّاز والحدّاد. وما زال المشهد يتكرر بأزياء جديدة وشاشات أكثر بريقًا. لو دُعي أينشتاين اليوم إلى ندوة علمية، ودُعيت امرأة عارية إلى حوار صحفي، لانصرف الناس عن عبقري الفيزياء إلى صخب الجسد. ليست التهمة في الناس وحدهم، ولكن في طبيعة النفس البشرية التي تميل إلى السهل والآنيّ وتزهد في العميق والجليل.
هذه المفارقة القديمة تذكّرنا بحكاية طريفة، لكنها تكشف كثيرًا من المأساة الثقافية. حين سُئل عباس محمود العقاد: "من الأشهر، أنت أم محمود شكوكو؟" أجاب متعجبًا: "مين شكوكو؟" فما كان من الفنان الشعبي إلا أن قال متحديًا: "نقف أنا وهو في ميدان التحرير ونشوف الناس هتتجمع على مين!" لكن العقاد رد بذكاء ساخر: "خليه يجيب رقاصة تقف في الرصيف التاني، ونشوف الناس هتتلم على مين أكتر!"
القصة تختصر المسافة بين القيمة والصدى، بين من يبني فكرًا ومن يصنع صخبًا. الجمهور في أغلبه لا يقيس العمق ولا الفكرة، بل يقيس ما يثيره في اللحظة من انفعال وضحك ودهشة. تلك طبيعة السوق حين يُترك بلا ذوق ولا وعي، إذ ترتفع فيه الأسعار بما يُثير لا بما يُفيد.
ولو تأملت واقعنا اليوم، لوجدت أن شكوكو العصر الرقمي يملأ المنصات ضجيجًا وصورًا ومقاطع تتهافت عليها الأعين، بينما المفكرون والعلماء يكتبون في الظلال بلا ضوء ولا جمهور. الإعلام بدوره صار مرآة لهذا الخلل؛ يلهث وراء الترند لأنه يجلب المشاهدات، لا لأنه يحمل المعنى.
إنها أزمة ميزان القيم، حين يعلو الهزل على الجدّ، ويُهمل الفكر لصالح التسلية، ويتحوّل الوعي إلى سلعة تُقاس بعدد المتابعين. ومع ذلك، يبقى الأمل في القلة التي ما زالت ترفع الكتاب فوق الراقصة، وتفضّل الحوار على الصخب، وتدرك أن ضجيج الجماهير لا يصنع المجد، وأن الزمن ينحاز في النهاية إلى من يترك أثرًا لا صدى.