لسه في الأيام أمل
الحياة مليئة بالمحطات، وفي كل محطة يترك الماضي بصماته في قلوبنا. أحيانًا تكون ذكريات جميلة، وأحيانًا أخرى تكون جراحًا لا تُمحى بسهولة.. كثيرون يعيشون أسرى لما فات، يتوقفون عند أخطائهم، أو عند خيبات أملهم، أو عند خسائر أثقلت كواهلهم، فلا يستطيعون أن ينظروا إلى الأمام.
لكن صوت الرسول بولس يأتينا بقوة ليقول: "إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام". هنا يكشف لنا سرّ الحرية الداخلية، أن الماضي لا ينبغي أن يكون قيدًا على الحاضر ولا عائقًا للمستقبل.
الله لم يخلقنا لنعيش في دائرة مغلقة من الندم أو الحسرة. نعم، من الطبيعي أن نتألم على ما فات، لكن ليس من الطبيعي أن نترك الماضي يسرق مستقبلنا. الإيمان الحيّ يدعونا أن نرفع عيوننا لنرى أن الرب يعدّ لنا دائمًا بداية جديدة.
قد يكون وراءنا فشل في الدراسة أو العمل، أو سقوط في خطية متكررة، أو علاقة لم تُكلَّل بالنجاح، لكن أمامنا إله قوي يقول: "ها أنا أصنع كل شيء جديدًا". بداية جديدة لا تعتمد على قدرتنا، بل على نعمته التي لا تسقط أبدًا.
النسيان الذي يتحدث عنه بولس ليس فقدان الذاكرة، بل قرار واعٍ أن لا نسمح لما فات أن يشلّ خطواتنا.. أن أنسى يعني أن أسلّم ما جرحني بين يدي المسيح، وأثق أنه قادر أن يحوّل الألم إلى خبرة، والدموع إلى بذار رجاء. أن أمتدّ إلى ما هو قدام يعني أن أركّز على الوعود، لا على الذكريات. أن أعيش بعين معلّقة على السماء، لا بعين سجينة في الماضي.
ولنا في حياة بولس نفسه برهان عملي. كان ماضيه مليئًا بالعنف ضد الكنيسة، شاهدًا على موت استفانوس، ومضطهدًا للمؤمنين. لو ظل يجلد نفسه بتلك الذكريات لما صار رسول الأمم.. لكنه وثق في غفران الله، ونظر إلى الأمام، فعاش حياته كلها كشهادة قوية أن الله قادر أن يحوّل العدو إلى كارز، والقاتل إلى قديس. هذا هو سر الامتداد: أن تجعل نعمة الله تكتب فصولك القادمة بدلًا من أن تبقى أسير صفحات قديمة.
واليوم، كل واحد منا مدعو أن يتوقف لحظة ويسأل نفسه: هل ما زلت عيني معلّقة بما ضاع؟ هل أعيش رهينة لأخطاء الماضي أو جراحه؟ أم أنني أمتلك الشجاعة أن أضع يدي في يد المسيح وأسير معه نحو الجديد؟
صدّق أن ما ينتظرك أعمق وأجمل مما فاتك، وأن المستقبل مع الله لا يُقاس بخسائر الماضي. لذلك لا تلتفت إلى الوراء كثيرًا، بل ضع عينك إلى الأمام، لأن هناك دائمًا بداية جديدة، وهناك دومًا أفق مفتوح بالرجاء.