رئيس التحرير
عصام كامل

مفاتيح السعادة، جبر الخواطر (7)

العبادة لا تقتصر فقط على الصلاة والصيام وبر الوالدين وصلة الأرحام وغيرها من العبادات التي نعرفها. ورغم عظم شأن هذه العبادات وكبر فضلها فإن هناك عبادات خفية، وأجر هذه العبادات في وقتها المناسب يفوق كثيرًا من أجور العبادات والطاعات، ومن هذه العبادات عبادة جبر الخواطر. 

 
وجبر الخواطر خلق إسلامي عظيم يدل على سمو نفس وعظمة قلب وسلامة صدر ورجاحة عقل، يجبر المسلم فيه نفوسًا كسرت وقلوبًا فطرت وأجسامًا أرهقت وأشخاص أرواح أحبابهم أزهقت. فما أجمل هذه العبادة وما أعظم أثرها، يقول الإمام سفيان الثوري: “ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.

وجبر النفوس من الدعاء الملازم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول بين السجدتين: “اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني”.

مع الأنبياء والمرسلين

وقد ورد في صحيح مسلم أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وآله سلَّمَ تلا قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ في إبراهيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}، (فرفعَ يديهِ وقال اللهمَّ ! أُمَّتي أُمَّتي وبكى. فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: يا جبريلُ! اذهب إلى محمدٍ، – وربُّكَ أعلمُ -، فسَلهُ ما يُبكيكَ ؟ فأتاهُ جبريلُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فسَألهُ. فأخبرهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بما قالَ. وهو أعلمُ. فقال اللهُ: يا جبريلُ! اذهبْ إلى محمدٍ فقلْ: إنَّا سنُرضيكَ في أُمَّتكَ ولا نَسُوءُكَ.

وكذلك عند مشاهدة بعض الفقراء أو اليتامى شيئا من قسمة الميراث فمن الأفضل أن يخصص لهم من المال شيئا يجبر خاطرهم ويسد حاجتهم حتى لا يبقى في نفوسهم شيء، قال تعالى: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}. النساء:
ولا شك أن كل إنسان منا حُفر في ذاكرته أشخاص كان لهم الدور الفاعل والعمل الدءوب بمواقف سطرت وحفظت سواء بالقول أو الفعل أو رسالة أو فكرة أو كلمة خير جبرت نفوسا وأثلجت صدورا، فهذه المواقف تحفظ ولا تنسى، كما لم ينس النبي عليه الصلاة والسلام موقف المطعم بن عدي حين أدخله في جواره يوم عودته من الطائف حزينًا أسيفًا فقال يوم أسر أسرى بدر: “لو كان المطعم بن عدي حيًا وكلمني في هؤلاء النتنى لأجبته فيهم”.

ابن حنبل وأبو الهيثم

وكما لم ينس الإمام أحمد، أبا الهيثم فكان يدعو له في كل صلاة: “اللهم اغفر لأبي الهيثم.. اللهم ارحم أبا الهيثم.. قال ابن الإمام له: من يكون أبو الهيثم حتى تدعو له في كل صلاة، قال: رجل لما مُدت يدي إلى العقاب وأُخرجت للسياط إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني؟ قلـت: لا. قال أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين”.

ومن جبر الخواطر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رد سائلا قط، بل كان يرشد الصحابة للحل ويدلهم على الطريق ويطيب خاطرهم فقد دخل -عليه الصلاة والسلام- ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: ”يا أبا أمامة، مالي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله -عز وجل- همك، وقضى عنك دينك، قلت: بلى يا رسول الله؟" قال: قل إذا أصبحت، وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، وأعوذ بك من العجز، والكسل، وأعوذ بك من الجبن، والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله -عز وجل- همي وقضى عني ديني”.

جبر خواطر الأطفال

وحتى الأطفال كان لهم من جبر الخاطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيب فعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله ـصلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير – أحسبه قال: كان فطيما -، قال: فكان إذا جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرآه قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير -طائر صغير كالعصفور-؟ قال: فكان يلعب به ). وقال الصالحون: "من سار بين الناس جابرًا للخواطر، أدركته عناية الله في جوف المخاطر".
 

عودنا سادتنا ومشايخنا على الحرص على تلك الفضيلة البديعة، فقال أبو الحسن الشاذلي، رضي الله عنه: “أعط السائل ولو جاءك على فرس”.. وكان السيد أحمد محمد سليم، رضي الله عنه، يهش في وجه المذنب، فإذا به يخجل من نفسه، لأنه يعلم تمامًا أن الشيخ أحمد يرى بنور الله، وبصيرة المؤمن، فما يكون من ذلك المريد إلا أن يقلع من فوره عن ذنبه.


وكان الشيخ عمر أبو سليم، رضي الله عنه، لا يُرى إلا متبسمًا، مهما كان به من هموم، وآلام صحية، وحياتية، فكانت رؤيته تشرح الصدور، وترفع الروح المعنوية، وتبث السعادة في قلب كل من يلتقيه.


ومن ثمَّ وعلى نفس الوتيرة، يتمسك آل سليم، رضي الله عنهم، بتطبيق منهاج جدهم، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عمليًّا، فمثلا هم لا يواجهون العاصي بمعصيته، والمخطئ بأخطائه، مهما كانت واضحة وبادية للعيان، ويشمئز منها البشر، بل يتخذون من جبر الخواطر وسيلة لمساعدته ودعمه للإقلاع عن معاصيه، وولوج طريق الطاعة لله، سبحانه.


والروايات عن ذلك كثيرة، وتعد من قبيل الكرامات، وأثمرت عن توبة الكثيرين ممن كانت تضرب بهم الأمثال في المجاهرة بالمعاصي، فتحولوا إلى مؤمنين، عابدين، مخبتين.                                               وكذلك يفعل كثير ممن هداهم الله إلى جبر خواطر الناس.
جبر الخواطر أعظم من أي صدقة، وإذا كان قيام الليل شرف المؤمن، فإن جبر الخواطر هو بمثابة القناة الشرعية للسلام والخير بين الناس، وفاعلها ستنتظره جبال من الحسنات يوم القيامة.

 

الجريدة الرسمية