رئيس التحرير
عصام كامل

سجن نهايات العمر! (2)

العمر ليس سنوات وأيام وساعات  تكتب في شهادات الميلاد لكن مراحل عمرية وأحداث وحكايات، أسير أنا وحبيس وراء قضبان عوالم ألف ليلة إلى ثلاثية نجيب محفوظ وأولاد حارته ويوسف إدريس وأرخص ليالي والطيب صالح وموسم الهجرة إلي الشمال وعبدالرحمن منيف مع مدن ملح اصابتنا جميعا بالتيبس والفشل الكلوي ويحيي حقي قنديل أم هاشم الذي أنار سجني وأيام طه حسين التي فكت أسره من ظلام ممتد. 

 

أسير أنا وحبيس وراء قضبان عوالم محفوظ عبد الرحمن وبوابة الحلواني وأسامة أنور عكاشة وليالي الحلمية وساقية عبد المنعم الصاوي ومرورا بدراما تليفزيونية شكلت فصلا جديدا غير مسبوق.. وأجدنى أمام دراما العنف والخيانة الزوجية والنهب والسرقة والبلطجة والمخدرات وكل الموبقات، نقلوا عشوائيات بعض الواقع وصدروها لنا بأنها الواقع.. إعتبروا الجزء إن وجد هو الكل.. أنت غريب  وهم غرباء!

 

أسير أنا وحبيس وراء قضبان سينما تشكلت من ضعف فاتن حمامة وإغراء هند رستم وعبقرية أحمد زكي وخفة دم عادل إمام ودريد لحام وكأسك يا وطن مع محمد الماغوط، وعار وكيف محمود عبد العزيز وعلي عبد الخالق وإسماعيل ياسين الذي اقترنت أفلامه بإسمه، وزينات صدقي وكتاكيته بني، وعمر الشريف لورانس العرب ونجيب الريحاني الضاحك الباكي مع مخرجين عباقرة من عينة أرض صلاح أبوسيف ومصير الناصر صلاح الدين مع يوسف شاهين، وسائق إتوبيس البريء عاطف الطيب وإشارة مرور محمد خان وأيامه.

 

والآن سينما العنف والبلطجة والخيانة والعشوائيات.. باختصار سينما تخجل أن تتفرج عليها بمفردك بل تصاب بالقرف والغثيان فما بالك لو كان أبناءك بجوارك.

 

أسير وراء قضبان مدينة بلا قلب وأحمد عبد المعطي حجازي: بلا نقود. جائع حتي العياءْ بلا رفيق.. كأنني طفل رمته خاطئة.. فلم يعره العابرون في الطريقْ.. حتى الرثاء! مدينة بلا قلب حقا.. إلي رفاقِ السيدة أجرّ ساقي المجهدة.. والنور حولي في فرحْ وقوس قزحْ وأحرف مكتوبة من الضياء.. حاتي الجلاء.. وبعض ريحي هيْنِ. بدء خريف.. تجر ذَيَلَ عقصة مغيَمة مهَومه.. علي كتفْ.. من العقيقِ والصدفْ.. تهفهف الثوبَ الشفيفْ.. وفارس شدَّ قواما فارعا كالمنتصِرْ.. ذراعه يرتاحْ في ذِراع أنثي كالقمرْ.. وفي ذراعي سلة فيها ثيابْ!

 

أسير أنا وحبيس وراء قضبان مع مسرح محمد صبحي ومغناطيس نعمان عاشور وفرافير يوسف إدريس ومحمود دياب والغرباء لا يشربون القهوة والفريد فرح وسعد الله ونوس والملك هو الملك وماري منيب ومن يلعب علي خشبتهم.

 

أسير أنا وحبيس وراء قضبان قلم محمد حسنين هيكل ووثائق ووقائع وعمر وعلاقات متشابكة وكلمات أنيس منصور التي تسرقك بجمالها ورشاقتها حتي تشعر أنه نشلك ولم يعطك شيئا ومنطق أحمد بهاء الدين وسلاسة أحمد سلامة وثقافة كامل زهيري وثراء محمد التابعي وجزاله وعنف عباس محمود العقاد وحملات نعمات أحمد فؤاد وإحسان عبدالقدوس ومن يدور في فلك الحروف الرصاص حتي حروف الكي بورد وكومبيوتر لم يلحقه هؤلاء.

 

 مدينة بلا قلب

 

حقا مدينة بلا قلب: والناسُ يمضون سِراعا.. لا يَحْفلون.. أشباحهم تمضي تباعا.. لا ينظرونْ.. حتي إذا مرى الترامْ.. بين الزحامْ.. لا يفزعونْ.. لكنني أخشي الترامْ.. كلّ غريبي ههنا يخشي الترام!.. وأقبلتْ سيارة مجنحة.. كأنها صدر القدرْ.. تقل ناسا يضحكون في صفاءْ.. أسنانهم بيضاء في لون الضياءْ.. رؤوسهم مرنَّحة.. وجوههم مجلوة مثل الزَّهرْ.. كانت بعيدا. ثم مرت. واختفت.. لعلها الآن أَمامَ السيدة.

 

تري هل هو السجن مع كل هؤلاء أم تمهيديات نهاية العمر والرحلة؟ تري هل الأسر والحبس مع هؤلاء هو شرط استمرار الحياة؟ وهل البقاء هنا متعة أم يغور الحبس ولو كان في قصر من ذهب؟ 

أشعر بمرارة الحبس وأنا لا أتذوق الاغاني الجديدة ولا أستمتع بقصيدة لا تعترف بموسيقى أو وزن أو إيقاع.. أشعر بمرارة الحبس وأنا لا أستمتع بفيلم ممتلئ بشتائم وإيحاءات تطعن قلبي وتمزق وجداني وتجرحني أمام بناتي وتخجلني أمام زوجتي! 

 

مدينة بلا قلب حقا: ولم أزلْ أجرّ ساقي المجهدة!.. والناس حولي ساهمونْ.. لا يعرفون بعضَهم.. لا يعرفونْ.. هذا الكئيبْ.. لعله مثلي غريبْ.. أليس يعرف الكلامْ؟.. يقول لي.. حتي.. سلام!.. يا للصديقْ!.. يكاد يلعن الطريق.. ما وجهته؟.. ما قصته.. لو كان في جيبي نقودْ!.. لا.. لن أعودْ.. لا لن أعودَ ثانيا بلا نقود. 

 

أشعر بمرارة الحبس وأنا لا أعرف أسماء ممثلين جدد أو أدباء جدد أو موسيقيين بنغمات لا استسيغها.. أشعر بمرارة الحبس وأنا أنفر من شتائم علي صفحات جرائد تجعلني أهرب إلي الكبار وراء القضبان اللامرئية التي سجنت وراءها.. أشعر بمرارة الحبس وأنا لا أستطيع بسهولة تكوين صداقات جديدة وأجدني أتذكر أو أستشهد بمقولات أو مواقف أصحاب رحلوا حتي إنني ضبطت نفسي متلبسا بقول الله يرحمه أكثر من 100 مرة في قعدة واحدة ل100 صديق رحلوا.

 

مدينة بلا قلب حقا: يا قاهرة!.. أيا قبابا متخمات قاعدة.. يا مئذنات ملحدة.. يا كافرة.. أنا هنا لا شيءَ. كالموتي. كرؤيا عابرة.. أجرّ ساقي المجهدة.. للسيدة!.. للسيدة! 

هل كل الأصدقاء رحلوا ومن بقي حبس مثلي وراء قضبان لا يستطيع الفكاك منها؟ ومع صلاح جاهين يكون الألم والوجع مع عجبي: سمعت نقطة ميه جوه المحيـــــــط.. بتقول لنقطه ما تنزليش في الغويط.. أخاف عليكي م الغرق.. قلت أنا.. ده اللي يخاف م الوعد يبقي عبيط..عجبي! 

 

 

هل كل الكتابات والابداعات رحلت ولم تعد تحت أسماء ووجوه جديدة؟ أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جَرس.. جلجلت به صحيوا الخدم والحرس.. أنا المهرج.. قمتو ليه خفتو ليه.. لا فْ إيدي سيف ولا تحت مني فرس.. عجبي! 

هل العدم هو السيد؟ هل الموت علي الأبواب بعد أن أرسل لي هذه الجيوش ليحاصرني لتسهل مهمته في أي لحظة يقررها هو؟ ضريح رخام فيه السعيد اندفن.. وحفره فيها الشريد من غير كفن.. مريت عليهم.. قلت يا للعجب.. الاتنين ريحتهم لها نفس العفن..عجبي!! 

yousrielsaid@yahoo.com

الجريدة الرسمية