رئيس التحرير
عصام كامل

الشيزوفرنيا الغربية.. عرض مستمر!!

ماذا تريد واشنطن على وجه الخصوص والغرب على وجه العموم من إشعال النار الآن في الصراع بين روسيا وأوكرانيا؟ 

في البداية الكل يعرف أن الحرب غير متكافئة بين روسيا وأوكرانيا، وإذا أرادت روسيا حسمها فلن تأخذ بضعه دقائق والغرب يدرك ذلك جيدا، لكن يتخوف البعض من أن تكون هي الشرر الذى يشعل النار الكبرى.. وأنا أشك في حدوثها لان الكل يدرك أن الكل سيهلك إذا اشتعلت، لذلك ستظل الأمور  كما أظن مناوشات وملاسنات أو حروب اعلامية وبعض العقوبات الاقتصادية من الجانبين. 

 

لكن بعيدا عن حرب كبرى غير محتملة وحروب صغرى تشتعل هنا وهناك أعتقد إن الأمر أكبر من ذلك بكثير في هذه المرحلة.. أعتقد إن الهدف هو روسيا التى بدأت تكشر عن أنيابها هنا وهناك.. وأعتقد إن الهدف الثمين هو الصين التى تدخل في تحالفات متعددة مباشرة وغير مباشرة مع  روسيا.

 

واشنطن تحاول عرقلة التمدد والاجتياح الصينى للعالم -الاقتصادى اليوم والعسكرى غدا-، تارة ب كورونا وتارة بفرض حظر بشكل أو بآخر.. وأعتقد أن الأزمة الأوكرانية أحد حلقات الصراع الذى يتجنب الكل حدوث مرحلته الأخيرة بشكل مباشر عسكريا، لان الكل يعرف ان العالم يمكن تدميره في لحظة من جراء الترسانات النووية لذلك يتخذ الصراع الآن ومنذ سنوات شكل حروب بالوكالة هنا وهناك.

 

بداية أقف كثيرا أمام مسلسل الشيزوفرنيا الغربى الذى لا تتوقف حلقاته، فعلى سبيل المثال في 25 ديسمبر 1991 هلل الغرب بعد نجاح مخططه في تفكيك الإتحاد السوفيتي إلى جمهوريات متفرقة ليهدم من وجهة نظره القوة والقطب الشرقى المناوئ للقطب الغربى ومنهيا الحرب الباردة بين الغرب بزعامة واشنطن والكتلة الشرقية بزعامة الإتحاد السوفيتي.. وتحت نفس الشعارات الرنانة مثل الإستقلال والحرية والديمقراطية.. الخ من أهداف ظاهرها الرحمة وباطنها تفتيت الكيانات والدول في الكتلة الشرقية بعد إنهيار الاتحاد السوفيتىي.

 

شيزوفرينا غربية

 

وفى نفس الوقت إتجهت أوروبا إلى التوحد في كيان اقتصادى كبير هو الإتحاد الاوروبى.. وهلل الغرب لهذه الوحدة.. وإنتشرت موجات الغضب منذ شهور عندما أعلنت بريطانيا خروجها من هذا الإتحاد! هلل الغرب أيضا إلى إتحاد ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية وإحتفلوا بسقوط سور برلين الفاصل بينهما وعودة ألمانيا الموحدة.. وفى نفس الوقت دعا الغرب ونجح وهلل من خلال استفتاءات هنا وهناك تحمل في طياتها علامات استفهام متعددهة إلى تفتيت العراق ومحاولات سلخ الأكراد من العراق ودعوات مشابهة نجحت في تقسيم السودان إلى جنوب وشمال ومازال المخطط مستمرا لفصل ما تبقى من ولايات شمال السودان الجديد.

 

وفى ذات الوقت تتجلى الشيزوفرنيا الغربية عندما رفضوا نتيجة الاستفتاء الذى تم في مقاطعة  كاتالونيا الاسبانية والذى اختار 90% من الذين صوتوا في الاستفتاء الانفصال عن أسبانيا وتكوين جمهورية مستقلة، ولم يرد الغرب على رفض رئيس الحكومة الأسبانية ماريانو راخوي هذه النتيجة معتبرا أن الإستفتاء لم يحصل.

 

والآن يدق الغرب طبول الحرب الاعلامية على روسيا لأنها تعد لغزو أوكرانيا -إحدى جمهوريات الإتحاد السوفيتى السابق التي فككها الغرب- ورغم  تاريخ يعود إلى العصور الوسطى.. فكلا البلدين لديهما جذور في الدولة السلافية الشرقية المسماة "كييف روس" وقطاع مهم يتحدث اللغة الروسية  لذلك يتحدث الرئيس الروسي اليوم عن شعب واحد.

 

وأنا لا أناقش المبررات الروسية في حماية أمنها القومى من التحرش الغربى الصاروخي والنووى ولا أناقش الأهمية الاستراتيجية لجزيرة القرم وغيرها من قضايا تصب في المصلحة الروسية ولا أناقش الموقف الأوكراني من التحركات الروسية لكن اناقش السلوك الغربى  والمبررات التي يسوقونها في كل حالة على حسب المقاس الغربى..

 

طبعا وطبقا لمنطق المصلحة من حق الغرب أن يدافع عن مصالحه -حتى ولو إختلفنا معها- لكن في نفس الوقت بنفس المنطق عليهم عدم  تجريم حقوق الآخرين في الدفاع عن مصالحهم، فحق تقرير المصير لا يمكن أن يكون حلالا في العراق والسودان وسوريا وحراما في أسبانيا! وإتحاد الجمهوريات والولايات لا يمكن أن يكون حلالا في ألمانيا وأمريكا والإتحاد الاوروبي وحراما على الكتلة الشرقية التي تفككت والإتحاد السوفيتى الذى تفتت إلى نحو 15 جمهورية..

 

الدفاع عن المصالح لا يمكن أن يكون حلالا عندما تذهب إنجلترا إلى  جنوب المحيط الأطلسي عام 1982 بقواتها إلى جزر فوكلاند وجورجيا وساندويش الجنوبية الملحقة بها في حرب غير متكافئة مع الأرجنتين.. ويكون حراما على روسيا أن تستعيد جزر كانت لها أيام المجد السوفيتي.

 

والسؤال مثلا ماذا ستفعل أوروبا إذا صحونا صباح يوم على سيناريو آخر مثلما حدث في الإتحاد السوفيتي سابقا وأقصد  دعاوى إنفصال من 50 ولاية أمريكية عن الكيان الفيدرالي الأمريكي؟ لن أقول طبعا ماذا ستفعل الحكومة الفيدرالية الأمريكية حيال هذا الموقف؟ وما هو سلوك واشنطن تجاه ولايات أمريكية أخرى مثل نيويورك وألاسكا وتكساس وكاليفورنيا مثلا وهى تطالب بالانفصال؟طبعا سيقول الكثير في نفس واحد أمريكا ليست الإتحاد السوفيتي ولن أناقش هذا الجدل الآن..

 

 إستفزاز روسيا

 

لكن بداية علينا أن نعترف أن المشكلة المعلوماتية عندنا جميعا تكمن في سيطرة الغرب على العالم بالإعلام، الكل يقرأ ويشاهد ويحلل الأحداث بعيون وأقلام غربية، لذلك لا يناقش أحد الاستفزازات الأمريكية ل روسيا منذ نجاح واشنطن في تفكيك الإتحاد السوفيتى. لا أحد يناقش إستفزاز حلف الناتو بالاقتراب من روسيا يوما بعد يوم.

 

لا يذكر أحد محاولات الرؤساء الأمريكان غرس الشوكة تلو الأخرى في ظهر الدب الروسىي مثلا حاول الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ضم أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2008 وقبول عضويتهما من خلال برنامج تحضيري، وطبعا تم مقابلة ذلك وقتها بإحتجاج بوتين وإعلان روسيا أنها لن تقبل الاستقلال التام ل أوكرانيا، لكن فرنسا وألمانيا حالتا دون تنفيذ بوش لخطته أثناء قمة الناتو في بوخارست وتم طرح مسألة عضوية أوكرانيا وجورجيا، ولكن لم يتم تحديد موعد لذلك.

 

تخيلوا روسيا وهى تشاهد جزء من امبرطوريتها المتفككة ومحاولة ضمها إلى عدوها حلف الناتو.. تخيلوا روسيا وهى تشاهد جزء من امبرطوريتها المتفككة بالارتباط بالغرب من خلال اتفاقية تعاون مع الإتحاد الأوروبي في صيف عام 2013.. نعم، قد تكون ذلك من حق أى دولة مستقلة أن تتعاون مع من تشاء لكن تأتى الشيزوفرنيا الغربية بعكس ذلك هنا وهناك.

 

 

ومع ذلك أعتقد أن الفرامل الآن موجودة وستحدث أثرها في الوقت المناسب.. لآن أوروبا تدرك أن الكثير من مصالحهم مع روسيا والصين وتقع بين الكماشة الروسية الصينية الامريكية وتخشى من ويلات حروب اقتربت منها وستنكوى بها أولا إذا وقعت، وأخيرا قد نكون  جميعا الآن على أعتاب تشكّل نظام عالمي جديد لا يقوم على القطبية الثنائية ولكن الأقطاب المتعددة والبداية قد تكون الآن من خلال محور صيني روسي في مواجهة تحالف غربي بقيادة الولايات المتحدة وحلف الناتو.

yousrielsaid@yahoo.com

الجريدة الرسمية