رئيس التحرير
عصام كامل

عبقرية القضاء.. وتفريد البلاغات

لا تكمن عبقرية قضاء مجلس الدولة في حسم المنازعات، بقدر ما تتجلى في إرساء مبادئ العدالة التي يسير على هديها المتقاضون، ولا شك أن لقضاة الحريات والمشروعية أثر كبير، كُلما تحدثوا عبر حيثيات أحكامهم إلى خطورة وضع المتهم في موضع المسئولية لفترات طوال مسلطًا عليه سيف الاتهام لسنوات لأسباب خارجة عن إرادته، علي خلاف الأصل العام بأن المتهم برئ حتي تثبت إدانته.


والمشرع اعتنق مبدأ تفريد العقاب، ويرد سلوك الموظف في حال خروجه على القانون، الأمر الذي يكون هذا الخروج بمخالفة واحدة أو مجموعة من المخالفات تكون محلا لبلاغ واحد إلى جهة التحقيق التي ليس لها تجزئة هذا البلاغ بإفراد كل مخالفة على حدة تكون موضوع لدعوى تأديبية مستقلة، فيصبح المركز القانوني للموظف مضطربًا تحت سطوة الإحالة إلى المحاكمة، ويظل سيف الاتهام مسلطًا على متهم الأصل فيه البراءة فيجمد وضعه الوظيفي، ويبعد عن الترقية ويحرم من مكافآته ولا يمنح علاوات تشجيعية ولا تقبل استقالته ويتأثر تقرير أدائه ومرتبة كفايته ويظل قابعا في مركز قانوني يخيم عليه شبح الاتهام ردحا من الزمان.


الأمر الذي يوجب أن يكون البلاغ الواحد محلا لتحقيق واحد ومحاكمة تأديبية واحدة لكل من ساهم في ارتكابها بحيث يمكن إيقاع العقاب وزن الجزاء الأوفى لكل منهم بقدر مساهمته في إرتكاب هذه المخالفة، والقول بغير ذلك يتنافى وحسن سير العدالة لما قد يصدر من أحكام تأديبية متناقضة عن بلاغ واحد، فضلا عن أن الجزاء لا يكون عادلا فيأتي هينا في جانب منه أو مفرطا في الشدة في جانب، لعدم تكامل التصور الواقعي للمخالفة أو المخالفات التأديبية أمام القاضي، فيأتي قضاؤه غير مستند إلى كامل الواقع.


لا يعرف المواربة

 

ولأن الحق أحق أن يُتبع.. ولأن ثوب القضاء التأديبي شامخ وناصع البياض لا يعرف المواربة، فقد صدر الحكم مرصعًا بالذهب، وقد يُثلج صدور المواطنين بعد طول أمد التقاضي إنزال هذا الحكم على الواقعة، فلا تنزل المحكمة عقوبة إلا بذنب استقر في يقينها وقوعه، والأهم أن تتناسب تلك العقوبة مع ذلك الذنب، ولكن.. ماذا حدث في واقعتنا التي نتناولها اليوم، وما هو رأي العدالة فيها؟


وكان قد ورد للنيابة الإدارية بلاغ جمارك دمياط بشأن طلب تحديد المسئولية التأديبية عن إحالة بضائع، تفاح إيطالي طازج مُهمَل رقم 132 بوزن (22.827 طن) لبيعها مباشرة طبقا لنص المادة (126) من قانون الجمارك، إلا أنه لم يتم بيعها بسبب التراخي في الإجراءات مما أدى إلى تلفها وحرمان خزينة مصلحة الجمارك من ثمن البيع.

 

وسبق للنيابة التحقيق مع المحالين، ونسبت إليهم ذات الاتهامات الواردة بتقرير الاتهام محل الدعوى الماثلة، وتعلقت بالمشمول الوارد لجمارك دمياط والمحتوي على كمية من فاكهة الكيوي بلغ وزنها (24.185 طن) وأحيلوا جميعهم إلى المحاكمة التأديبية بالدعوى  32 لسنة 63 قضائية، والتي قضت بمجازاة المحالين الأول والثاني والثالث والرابع والسادس والسابع والثامن، وببراءة المحال الخامس، وتزامنت التحقيقات الصادر بشأنها الحكم مع التحقيقات محل الدعوى الماثلة، وتناولت جميعها وقائع متزامنة في تاريخ حدوثها، ومتطابقة في مضمونها، ومتشابهة في الإجراءات المنسوب للمحالين مخالفتها، ومرتبطة ببعضها، وإن اختلفت فقط في محتوى المشمول الجمركي.

 

شحنة الكيوي

 

ففي حين احتوى المشمول الجمركي الصادر في شأنه الحكم عاليه على شحنة من "الكيوي"، فقد تعلق موضوع الدعوى الماثلة بذات الإجراءات ولكن بالنسبة لمشمول إحتوى على "التفاح"، وبدلا من أن تجري النيابة الإدارية تحقيقًا واحدًا بالنسبة للمشمولين الجمركيين بحسبان أن الاتهام يتعلق بمخالفة القواعد والإجراءات الجمركية الواجب اتباعها في حالة عدم تَسَلُّم صاحب الشأن للمشمول الجمركي بصرف النظر عن محتواه، فإنها أفردت تحقيقات منفصلة لكل مشمول جمركي رغم تطابق الإجراءات الجمركية المنسوب للمحالين مخالفتها.

 

 

وعمدت بذلك إلى تجزئة المخالفات المنسوبة للمحالين، فجاء الأمر محض تكرار لواقعة سلك فيها المحالون ذات المسلك الإداري الذي سبق لهذه المحكمة أن حاكمتهم بشأنه بموجب حكمها آنف البيان، تضمنت وقائع يعد إفراد كل منها كسبب مستقل للإحالة إلى المحاكمة التأديبية تجزئة للاتهامات الموجهة إليهم، وهو ما يتنافى والعدالة، مما يبطل معه قرار إحالة المحالين إلى هذه المحاكمة، فتضحى معه والحال كذلك غير مقبولة في شأنهم جميعا، وهو ما تقضي به المحكمة، ولهذه الأســـــباب قضت المحكمة بعدم قبول الدعوى، لبطلان قرار الإحالة.. وللحديث بقية

الجريدة الرسمية