رئيس التحرير
عصام كامل

أن تكون مستقلًا


أكثر الناس في القرآن لايعلمون ولايشكرون ولايؤمنون، (وأكثرهم) أيضا ستجدهم فَاسِقُون يجهلون ومعرضون، ولايعقلون، ولا يسمعون عكس القليل الذين قال الله فيهم "وقليل من عبادي الشكور"، "وما آمن معه إلا قليل" "وثلة من الأولين وقليل من الآخرين"، وهكذا فالكثرة ليست معيارًا للحق دائما، ولكن الأقلية ليست على حق دائما، وما بين هذا وذاك هناك المستقلون، وهم من يجعلون للحقيقة منطقا وللمعارضة وزنًا، وللأغلبية ثمنا.


أن تكون صاحب قضية، وأن تكون مهنيا، وأن تنتمي إلى الناس وتعبر عنهم، وأن تكون مع الحق وضد الظلم، وألا تكون محايدا في قضايا الوطن، وأن تكون مستقلا لا تسير في مواكب الزفة والكثرة لأن أغلبهم لايفقهون ولايعلمون، فأن تكون هكذا لاتنتمي إلى حزب أو جماعة أو شلة ولايكون لك كفيل أو جهة ترعاك وتحميك وتصد عنك مكائد "أهل الكار"، فأنت متهم ومطارد ومحل شك من الطرف الآخر إذا تكلمت عن الطرف الأول..

تشيد بالأهلي فأنت ضد الزمالك، تدافع عن الجيش فيضمونك لزمرة "المطبلين"، تدافع عن حقوق الإنسان فتغضب معظم الأجهزة.. تشيد بالإنجازات الحقيقية فتخسر الثورجية والمعارضين، وعندما تنتقد السلبيات الموجودة تخسر "المطبلاتية والحمقى"، وهكذا الكل يريدك معه وعكس ذلك تصبح ضده..

فلو كنت موضوعيًا في الحديث عن الإنجازات فأنت متهم بمحاباة النظام، وخائف ومرتعش وعليك أن تتوارى من أبنائك وتنتظر ساعة حساب قادمة لا محالة، وإذا انتقدت ووضعت يدك على أخطاء فأنت جاهل وخائن وربما عميل، وعليك إعلان التوبة، وعلى الرغم من الخطوط الفاصلة بين التطبيل والتهليل والخيانة والعمالة شديدة الوضوح.. إلا أن هذه المصطلحات أصبحت الأكثر شيوعًا، وقد تمتد إليك حتى لو كنت موضوعيًا في كتابتك عن الإنجازات أو الإخفاقات..

والمشكلة أن الدولة العميقة تزدري فكرة التفوق وتنظر بعين الشك إلى المتفوقين، تفضل المتوسطين وليس هناك مانع أن يكونوا فاسدين أو مستعدين للفساد، متربحين من العمل العام أو مستعدين للتربح. وهي تفضل من تستخدمهم ويخدمون مصالحهم وليس من يخدمون بلدهم، تفضل من لايعرفون ويسعدهم أنهم لايعرفون، تفضل من لايملكون طبع الاستقلال في الرأي أو الفكر أو الشجاعة في الموقف والاختيار.

من المنطقى أن نختلف في وجهات النظر والتوجهات، ومن غير المنطقي التصرف بهمجية وتعصب لأفكار أساس صحتها من خطأها نسبى بحت، ذلك أن الاختلاف ليس تخلفا أو رجعية ولكن الخلاف بسبب الاختلاف هو قمة التخلف، بل إن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، أي أن الاختلاف والتنوع من سنن الكون..

لأن الله خلق لنا أذنين، وخلق لنا فما واحدا لنسمع أكثر مما نتكلم، فالاختلاف رحمة وهو سبب رئيسي لازدهار الأمم فلن تتقدم أي أمة إذا هيمنت عليها وجهة نظر واحدة، لقد تعودنا في مجتمعنا بكل أسف أن نتلقى الأفكار المعلبة دون مناقشتها أو الاعتراض عليها، لعل هذا من أسباب معوقات التقدم في مجتمعنا.

لذا فإن المثقف لا يكون رهينة للتصفيق وما يقوله الناس عنه، بل يجب أن يكون واعيا وفطنا ليدرك الفرق بين الاستقلالية والحياد والانتقاد والركوب مع موجة الآخرين، حتى لا يخدم الدعاية السوداء عن غير قصد، ولا يتم استغفاله واستغلاله كإحدى أدوات التشويه والتضليل دون أن يشعر، كما يجب أن يدافع عن الحق ولا يخاف في الله لومة لائم..

ويقف إلى جانب المظلوم دون أن يلتفت إلى ما يتهم به بسبب هذا الموقف. ويتذكر ماكان يقوله السلف الصالح "لو رأيت أخي ولحيته تقطر خمرًا لقلت ربما سكبت عليه، ولو رأيته على جبل يقول أنا ربكم الأعلى لقلت إنه يقرأ الآية"، وابن القيم قال "والله إن العبد ليصعب عليه معرفة نيته في عمله، فكيف يتسلط على نيات الخلق"..

وكما قالوا قديمًا "إياك من الكلام ما إن أصبت فيه لم تُؤجر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظن بأخيك"، عموما ليس من مصلحة أحد خلق حالة من الاستياء العام، تستاء من كل شيء، وتشك في كل شيء، وتشكك في كل شيء، وتسخط على كل شيء، وتفقد الثقة في كل شيء، وتهزأ من كل شيء، هذا نوع من الوعي العدمي، لا ينشأ عنه فكر جاد، ولا ينبني عليه عمل مثمر.
الجريدة الرسمية