رئيس التحرير
عصام كامل

علي حزين يكتب: حفيف السنابل

فيتو

على الرغم من مرور سبعة أعوام عجاف مرت إلا أن كل شيء هنا ما زال يحتفظ بمكانه ورائحة عبقه الأسطوري...

ماكينة الحاج "أحمد ".. ما زالت تروي حقول القمح الشاسعة، المترامية الأطراف، التي تكاد تلتصق بالأفق البعيد.. كم أعشق طنينها الضارب كبحر من الشعر الجميل، والنخيل المهتز للريح، كعروسٍ راقصةٍ فوق الترعة، ووسط الحقول.. لم أزل أستمد منها شموخي، وارتفاع هامتي عن الأضغان.. وزقزقة العصافير، والقُمري، وحفيف سنابل القمح، وظل النخيل النائم على الطريق.. وأكوام الخوص، وبعض الماشية.. أعمدة التلفونات.. عليها نقوش، وتواريخ صغيرة، كتبناها يوم كنا نهرب من المدرسة ــ ونحن صغار ــ لنلهو ونلعب في المكان ، نقفز في الترعة حينًا ، وحينًا آخر نرجُم النخيل، ليلقي علينا رطبًا جميلًا.. ثم نلعب بالكرة، حتى إذا اقتربت الشمس فوق رؤوسنا الصغيرة، وصار ظلنا تحت أقدامنا الحافية، نرتدي ملابسُنا، ونتأبط "خرائطنا" المدرسية، المدفونة تحت جذع النخلة البعيدة، ثم نرجع إلى البيوت، وشريط السكة الحديد يبرق كالسيف، ونحن نزعق.. نتشاجر.. نتسابب.. نشوط حجرًا صغيرًا.. ونباح الكلاب يشتد علينا.. فنعدو... ونجري... ونحن نضحك.. ونضحك... و.......

كل شيء هنا يحتفظ بمكانه.. يحتفظ بنكهته الخاصة.. وعبق الذكريات يفتت حنين القلب شوقًا إلى أيام الطفولة، والصبا....!!
أمسكت حجرًا صغيرًا، قلبته بين يدي، تأملت زواياه، نظرت إلى رأس النخيل، أبحث عن عسب البلح، لكن شهر أغسطس يجعل النخل خاوٍ.. شدَّ انتباهي سرب السمك الصغير وهو يلهو بجوار شط الترعة، التي طالما غطست فيها ليلًا ونهارًا.. لكي أتعلم فن العوم.. وكدت أغرق فيها أكثر من مرة، لولا عناية السماء، حتى أصبت "بالبلهارسيا "... فكنت وأنا صغير، أتبول ماءً أحمر كشربات الورد.. وكنت أخبئ ذلك عن أمي، حتى لا تخبر أبي، فيضربني ضربًا مبرحًا.. فهو لا يعرف أني أهرب من المدرسة، وآتي إلى هنا، حتى أستحم في هذا المكان، النائي.. حتى اكتشفت أمي ذلك ذات يوم.. ووقع ما كنت أخشاه.. ضربني أبي يومئذٍ ضربًا شديدًا، ثم حبسني، ومنع عني الطعام والشراب بعدما كتفني من الخلف.. ولولا بكاء أمي، ورجائها ، وتحننها له.. لما كنت نجوت ــ كاد أن يقضي عليّ ــ

وبينما أنا في تداعياتي.. واسترجاع بعضًا من ذكريات الطفولة.. صفعني صوت قوي تهادي من عمق الماضي السحيق.. صوت أعرفه جيدًا.. أنه صوت عم " أحمد ".. صاحب الأرض التي أقف عليها.. وصاحب الحقول الخضراء.. وماكينة الري.. والنخيل.. والبهائم المربوطة ، بمحاذاة الترعة.. يرتدي جلبابًا صافيًا ، فضفاضًا.. وعلي رأسه عمامة بيضاء.. وشال من الصوف الرمادي فوق كتفه.. أما حذائه فلم أستطع أن أتبينه.. لبعد المسافة التي كانت بيننا.. ــ ربما كان حافي القدمين كعادته ، ربما ــ.. وبيده عصًا خيزران...........
ــ حاسب تعور البهائم يا ولد..!
ماتت يدي على الحجر ونظرت إليه.. ارتبكت حين رأيته قادمًا نحوي.. وفي يده عصاه.. التي طالما طاردنا بها.. كلما اقتربنا من الترعة ، أو من زرعه المروي.. تملكتني رعشة خفيفة.. لما رأيته أمامي.. سقط على أثرها الحجر من يدي ، وكدت أن أنطلق أعانق الريح ، هكذا حدثتني نفسي ، لكني تشبثت في المكان.. نشفت.. صُلِبْت مكاني.. وقدماي قد غرست في تحدٍ ، حتى دنا مني أكثر.. وقلبي يعلو ويهبط.. يدق.. يكاد يقفز من صدري من الخوف..اقترب مني أكثر.. فرأيته انفرجت أساريره عن ابتسامة ، أظهرت تجاعيد الكبر ، بين طرقات وجهه العصفوري.. مد يده السمراء ذات العروق الناتئة.. ربت على كتفي وهو يبتسم.. وكلبه يتبعه ، متسخ بالطين تنبعث منه رائحة نتنة.. فهو لا يفارقه أينما ذهب.. يشّتم الأرض.. يدور حوله.. يلعق ثيابه.. يشمّه.. يعوى.. يلهث.. فيدفعه بعصاه التي لم تتغير
ــ لا تخف يا عم أحمد... ؟!!.
ــ أنا عارف أنك شقي من يومك...
ضحكت في سري.. رميت بصري على قدميه ، حتى أتأكد من لو حذائه ــ كان حافي القدمين كما توقعت ــ فاتسعت ضحكتي ، وعليَّ صوتها.. وقذفت بالحجر في الماء ، فتشتت أسراب السمك الصغير ، الذي كان يلهو بجوار الشط ، صنع الحجر دوائر صغيرة فوق الماء ، راحت تتسع ، وتتسع.. وهي تهتزُّ هزات خفيفة... وعمي " أحمد ".. جالس على شريط القطار، يسألني عن أخباري..؟. ويذكرني بأيام الشقاوة، والعفرتة والشمس خلف ظهره تجنح للغروب.. والسماء كلوحة رائعةٍ مزجت فيها الألوان.. وحقول القمح ، والنخيل ، وأعمدة التلفونات عليها النقوش ، والتواريخ صغيرة.. والترعة المتخمة بالماء.. وماكينة الري تضرب على بحر الرمل.. وبعض المباني النازحة ، تبدو من بعيد كعلب الكبريت الصغيرة ، والليل يسحب خيوط النهار الأخيرة.. و.....
الجريدة الرسمية