تصريحات مطمئنة.. لكن متى تصل الثمار إلى المواطن؟
تحوّلت تصريحات رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي حول خفض الديون إلى مادة واسعة التداول على مواقع التواصل الاجتماعي، بين من تلقّاها بوصفها بشرى بانفراجة اقتصادية قريبة، ومن قرأها باعتبارها خطابًا تمهيديًا يسبق قرارات صعبة قد تمسّ حياة المواطن مباشرة. وفي الحالتين، لم يعد السؤال هو ماذا قيل؟ بقدر ما أصبح: ما الذي يعنيه ذلك عمليًا؟ ومتى يشعر به الناس؟
في جوهر التصريحات، حرص رئيس الوزراء على التأكيد أن الدولة باتت قادرة على إدارة وجدولة الدين، وأن هناك مسارًا واضحًا لخفضه إلى حدود آمنة. لكن هذه العبارة، على طمأنتها، تفتح بابًا واسعًا للتأويل: هل المقصود تصفير فعلي للدين العام؟ أم خفض نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي عبر تمديد آجال السداد وتخفيف الضغط قصير الأجل؟ وهل نحن أمام معالجة جذرية أم إعادة ترتيب للأرقام داخل الإطار المحاسبي؟
اللافت أيضًا أن الخطاب الحكومي انتقل، في هذا الملف تحديدًا، من موقع الدفاع إلى المبادرة. لم يعد الحديث مقصورًا على تبرير ضغوط خارجية أو أزمات طارئة، بل صار تقديم سردية متكاملة عن إدارة رشيدة وأعباء موروثة ومسار تصحيحي. وهنا يبرز التساؤل: هل نحن أمام دلالة اقتصادية بحتة، أم رسالة سياسية مفادها الاستمرار في النهج الحالي مع طلب مزيد من الصبر الشعبي؟
ويزداد هذا السؤال وجاهة حين نتوقف أمام الإقرار الضمني بأن ملف الدين لم يُدار على النحو الأمثل في فترات سابقة. فهل كان ذلك نتيجة ظروف استثنائية، أم خيارًا واعيًا بتأجيل كلفة التقشف خوفًا من تبعاته الاجتماعية؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل يأتي هذا الاعتراف اليوم بوصفه مراجعة صادقة، أم تمهيدًا لتبرير إجراءات قادمة قد تُوصف بالقاسية؟
أما العلاقة مع صندوق النقد الدولي، فتظل أحد مفاتيح المشهد. فهل تأجيل المراجعات يعكس قرارًا سياديًا بالتمهل، أم يدخل في نطاق التفاوض وإعادة ترتيب الالتزامات وكسب الوقت؟ وأين تقف حدود الشدّ والجذب بين الحفاظ على هامش القرار الوطني، والالتزام بشروط تمويل لا مفرّ منها؟
توقيت التركيز الحكومي على معاناة المواطن يثير بدوره علامات استفهام. هل هو توصيف واقعي لحجم الضغط الاجتماعي، أم محاولة واعية لصياغة سردية استباقية تُهيئ الرأي العام لما هو قادم؟ فالتجارب السابقة علّمت الشارع أن الطمأنة اللفظية لا تكفي، وأن المعيار الحقيقي هو ما يطرأ على الأسعار، والدخل، وفرص العمل.
والأهم، ما الذي غاب عن الخطاب؟ غابت أسئلة جوهرية تتعلق بلبّ المرحلة المقبلة: فهل هناك اتجاه لربط الديون بأصول أو استثمارات؟ وهل تمهّد التصريحات لتوسيع برنامج الطروحات الحكومية؟
في المحصلة، قد تكون تصريحات خفض الديون مطمئنة على مستوى الأرقام، لكنها تظل غير مكتملة ما لم تُترجم إلى تحسّن ملموس في حياة الناس. فالمواطن لا يعيش داخل الجداول والنسب، بل داخل سوق وأسعار ودخل ثابت لا يحتمل مزيدًا من الضغط. وهناك فقط -عند مستوى المعيشة- سيتحوّل الخطاب من وعود إلى إجابات، ومن طمأنة إلى ثمار حقيقية.