الست.. عظمة الخلود التي يجهلها الصغار! (2)
لا يمكن لمنصف أن يشاهد فيلم الست ثم يقف ساكنًا أو محايدًا، فالحياد أمام ما يحاول هذا العمل ترويجه من افتراءات يبدو خيانة.. وأقول لصناع هذا العمل: كيف سمحت ضمائركم، وأنتم تتصدّون لسيرة بحجم أم كلثوم، أن تختزلوا عظمة فنانة استثنائية وإنسانة وطنية مثقفة ومبدعة، في جوانب شخصية مختلَقة لا تمتّ للحقيقة ولا للتاريخ بصلة؟
بأي منطق فني أو أخلاقي جرى استبدال مشروع فني ووطني متكامل بسرديات نفسية هشة لا تسندها وقائع ولا تشهد لها سيرة؟ وكيف تحوّل رمز صاغ وجدان أمة، وأسهم في بناء وعيها وذائقتها، إلى مادة درامية يُستدعى منها الهامش، ويُغيَّب عنها الجوهر والإنجاز والسياق؟
هذه الأسئلة ليست انفعالًا عابرًا، بل مدخلًا ضروريًا لفهم جوهر الأزمة، فالسؤال الحقيقي الذي لا يجوز الهروب منه هو: أيّ فن نريد؟ فنًا يقرأ التاريخ بوعي، ويقدّم للناس ما ينفعهم في حاضرهم ومستقبلهم، ويعزّز قيم الحق والخير والجمال، ويُرسّخ الانتماء والفخر بأمجاد الوطن ورموزه التي شهد لها العالم بالريادة والعبقرية؟ أم فنًا يزوّر الذاكرة باسم الحداثة وحرية التعبير، ويتخفّى خلف لافتة الإبداع ليهدم المعنى ويُفرغ الرموز من قيمتها؟
أم كلثوم ستظل، بلا شك، قامة عصيّة على الكسر. لكن تركها بلا دفاع في الوعي العام ليس حيادًا، بل كسر بطيء للذاكرة. والذاكرة حين تنكسر، لا تُغنّي من جديد، ولا تُنجب وعيًا سليمًا، بل تترك فراغًا تتسلّل منه السرديات المزيّفة، وتُعاد فيه كتابة التاريخ بسطحية وخفة.
من المؤسف، بل المريب، أن تُستباح اليوم رموز بحجم أم كلثوم، لا بوصفها مطربة خالدة فحسب، بل باعتبارها نموذجًا نادرًا لفنانة مثقفة امتلكت حسًا ثقافيًا ولغويًا ووطنيًا وسياسيًا عاليًا، قلّ أن يجود به الزمن. لم تكن الست صوتًا فقط، بل عقلًا وضميرًا، ومشروعًا فنيًا وطنيًا متكاملًا، أسهم في تشكيل الوجدان العام، وبناء الذائقة، وصياغة معنى الانتماء في لحظات فارقة من تاريخ مصر.
ومن هنا، فإن ما قُدّم في فيلم الست لا يمكن التعامل معه بوصفه قراءة فنية مختلفة أو اجتهادًا مشروعًا. نحن أمام معالجة انتقائية بامتياز، تُعيد ترتيب الوقائع لا بحثًا عن الحقيقة، بل سعيًا للإثارة الرخيصة والجدل السهل. معالجة تنمّ عن جهل مركّب بالتاريخ، وتخلٍّ واضح عن الضمير الإنساني في الحكم على تجربة فنية ووطنية نادرة، جرى تقزيمها وتشويهها بدل تفكيكها بوعي واحترام.
الخطر الحقيقي لا يكمن في مشهد أو لقطة أو اختيار ممثلة، بل في الرسالة الكامنة خلف العمل: تفكيك الرموز، وتسطيح العظماء، وتقديم تاريخ مشوّه للأجيال الجديدة، وكأن هذا الوطن لم يُنجب إلا شخصيات قابلة للتقليل والاختزال. هنا لا يعود الأمر خلافًا فنيًا، بل يتحوّل إلى تفريغ متعمّد للرموز من معناها، وتشويه لتجربة إنسانية وفنية صاغت الوعي العام وأسهمت في بناء الضمير الجمعي.
الأكثر خطورة أن يتم ذلك بمشاركة فنانين يقبلون أدوارًا لا تضيف للفن ولا للجمهور ولا للوطن، بل تعمّق الانقسام، وتشتّت الأذهان، وتهدم القيم المستقرة، وتفتح الباب واسعًا أمام تسطيح الوعي وتشويه رموز يصعب أن يجود بمثلها الزمان. حين يُستبدل العمق بالإثارة، والتاريخ بالجدل المفتعل، يصبح الصمت تواطؤًا، والدفاع عن الرموز واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، لا ترفًا ثقافيًا.
أم كلثوم ليست قديسة معصومة، لكنها أيضًا ليست مادة خام لإعادة التفكيك تحت ضغط السوق أو إغراء الجوائز. إنها قيمة مصرية أصيلة، وميراث إنساني نادر، صنعته الموهبة والانضباط والثقافة والوعي والالتزام.
ومن يتجرأ على تشويه هذه القامة لا يسيء إلى شخص غاب عن الدنيا، بل يسيء إلى ذاكرة أمة، وإلى فكرة الفن نفسها. فالفن الذي يهدم رموزه، لا يبني مستقبلًا، بل يكتب شهادة فشله بيده.
أقولها بصراحة. الست أم كلثوم بعد هذا الفيلم المشبوه. زاد حب الناس لها أكثر وأكثر. ولعنة الله على كل من يشوه رموزنا.