في بورسعيد يرقصون مع الكلاب
لم تعد الحكاية تبدأ من كلب ضال ظهر فجأة في شارع جانبي، ولا من نباح عابر يوقظ النوم في آخر الليل، بل صارت تبدأ من خوف صريح يسكن البيوت ويلازم الخطى في وضح النهار.
في بورسعيد، المدينة التي عاشت طويلا على إيقاع البحر والانفتاح، صار المشي فعل شجاعة، وصار المرور في بعض الشوارع اختبارا غير عادل للحظ. هنا لا ترقص الحياة على نغمة الفرح، بل على نغمة القلق، كأننا جميعا دخلنا رقصة بالغصب مع كائنات لم نعد نعرف هل هي ضحية، أم خطر يتربص بنا؟
في صباح عادي، خرج عم عاطف، الرجل الذي تجاوز الخامسة والسبعين، ولم يكن يحمل من الدنيا إلا خبرته الطويلة وهدوء الشيخوخة، خرج ليقضي شأنه اليومي. لم يكن ضعيفا بقدر ما كان مطمئنا، والمطمئنون هم أول من يدفع الثمن في زمن الفوضى.
هاجمته مجموعة من الكلاب الضالة، لا كلبا واحدا يمكن ردعه أو الفرار منه، بل قطيع، والقطيع حين يجوع لا يفكر. سقط الرجل، ولم يسقط معه فقط جسده، بل سقط معنى الأمان في شارع كامل، ثم في مدينة بأكملها. مات عم عاطف، وبقي السؤال حيا.. كيف وصلنا إلى هنا؟
لم تكن تلك الواقعة استثناء، بل حلقة في سلسلة طويلة من الرعب اليومي، قسيس يعقر في طريقه، طفل يمزق وجهه في مشهد لا يحتمله عقل ولا يبرره منطق، طلاب يجرون إلى مدارسهم وهم يلتفتون خلفهم أكثر مما ينظرون أمامهم.
الخوف هنا ليس مبالغا فيه، وليس صناعة سوشيال ميديا، بل واقع موثق، يعرفه من يخرج قبل شروق الشمس أو يعود بعد الغروب. بورسعيد ليست وحدها، لكنها صارت نموذجا فاضحا لما يحدث حين تترك المشكلة لتتضخم حتى تتحول إلى تهديد مباشر للحياة.
الكلاب الضالة ليست شياطين، وليست ملائكة، هي نتيجة مباشرة لإهمال طويل، ولعجز إداري، ولتراكم قمامة، وغياب رؤية، وتناقض في الخطاب بين من يرفع شعار الرحمة، ومن يرفع شعار الأمن، وكأن الرحمة والأمان نقيضان لا يلتقيان.
هذه الكلاب تتكاثر بلا ضبط، وتعيش على بقايا مدن لم تنظم، وتتحول مع الوقت إلى مجموعات عدوانية، ليس لأنها شريرة، بل لأنها جائعة، مريضة، ومهجورة. الخطر لا يولد فجأة، الخطر يصنع ببطء.
المأساة الأكبر أن الدولة والمجتمع يتعاملان مع الظاهرة بعقلية رد الفعل، لا بعقلية الحل. ننتظر الدم، ثم نغضب. ننتظر الضحية ثم نصرخ، وبعد أيام يعود كل شيء إلى ما كان عليه، كأننا اعتدنا الرقص على الحافة، نقترب خطوة من الهاوية ثم نكتفي بالتحذير منها.
لا توجد خطة واضحة، ولا برنامج مستدام للتعقيم والتطعيم، ولا ملاجئ كافية تدار بعلم لا بعاطفة، ولا تنسيق حقيقي بين المحليات والطب البيطري والمجتمع المدني.
الرحمة الحقيقية لا تعني ترك الكلاب في الشوارع لتنهش الناس، كما أن الأمن الحقيقي لا يعني التسميم العشوائي الذي يصنع دائرة جديدة من العنف والمرض، والحل ليس أخلاقيا فقط، بل علمي بالأساس..
حصر الأعداد وتعقيم منظم وتطعيم إلزامي.. ثم نقل الكلاب الخطرة إلى أماكن آمنة بعيدة عن التجمعات السكنية، وإدارة صارمة لمصادر الغذاء العشوائي، وفي القلب من كل ذلك، إدارة محترمة للقمامة. كل ما عدا ذلك مسكنات مؤقتة، أو شعارات تصلح للهتاف لا للحياة.
نحن لا نعيش صراعا بين الإنسان والحيوان، لكن استمرار هذا الوضع يعني أننا نقبل ضمنيا بأن يكون الموت احتمالا عاديا في طريق العمل أو المدرسة، وأن نواصل الرقص مع الخطر، خطوة للأمام وخطوتين للخلف.
الرقص مع الكلاب ليس عنوانا مجازيا فقط، بل وصف دقيق لحال مدينة تتأرجح بين الشفقة والخوف، بين العاطفة والعجز. وما لم نكسر هذه الرقصة ونتوقف ونواجه المشكلة كما هي لا كما نحب أن نراها، فإن الأسماء ستتغير، لكن المآسي ستبقى.
عم عاطف لن يكون الأخير، إلا إذا قررنا أخيرا أن نختار العقل، لا الدوران في الحلقة نفسها.