في ذكرى تولي الشيخ مصطفى عبد الرازق مشيخة الأزهر، عالم الدين الذي أعاد للفلسفة الإسلامية روحها
يعد الشيخ مصطفى عبد الرازق، واحدا من أبرز أعلام الفكر الإسلامي الحديث، وأحد رموز النهضة الثقافية العربية في القرن العشرين، حيث جمع بين عمق التكوين الأزهري وآفاق الدراسة الفلسفية الحديثة في أوروبا، وتميز برؤية مستنيرة جعلته من رواد التجديد في الفلسفة الإسلامية ومؤرخيها البارزين.
شغل الشيخ مصطفى عبد الرازق مواقع علمية وثقافية متعددة، فكان أستاذا جامعيا وصحفيا وكاتبا، تولى تدريس الفلسفة بجامعة القاهرة، ليكون أول أستاذ عربي يدرس هذا العلم بعد أن كان مقصور على الأجانب، كما كان أول من تولى مشيخة الأزهر من خارج صفوف خريجيه، وأحد أبرز تلامذة الإمام محمد عبده.
حظي بتقدير كبير من كبار مثقفي عصره، وفي مقدمتهم الدكتور طه حسين الذي وصفه بأنه كان كريم الخلق وسليم الطبع ودقيق التفكير، لا يقول كلمة إلا بعد أن يحكم النظر فيها، وقد رحل الشيخ مصطفى عبد الرازق عام 1947، تاركا إرثا فكريا وعلميا لا يزال حاضر في مسيرة الفكر العربي والإسلامي.

ولد الشيخ مصطفى عبد الرازق عام 1885 بقرية أبو جرج محافظة المنيا، فوالده حسن عبد الرازق أحد مؤسسي جريدة "الجريدة" التي دعت إلى الحكم الدستوري والإصلاح الاجتماعي والتعليم، وهو أيضا من مؤسسي "حزب الأمة".
الدكتوراه عن الإمام الشافعي
التحق بالكتاب وحفظ القرآن ودرس في الأزهر وهو لم يبلغ الحادية عشر من عمره، وحصل على العالمية من الدرجة الأولى ثم انتدب للتدريس في القضاء الشرعي، وسافر إلى فرنسا والتحق بالسوربون لدراسة الفلسفة واللغة الفرنسية والاجتماع على يد الفيلسوف الفرنسي إميل دور كايم، وحصل على الدكتوراه عن رسالته بعنوان " الامام الشافعي أكبر مشرعي الإسلام "، واثناء وجود فى فرنسا قام بالتدريس فى جامعاتها، كما ترجم مع صديقه المستشرق الفرنسى برنار ميشيل رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده عام 1925.
أستاذ للفلسفة الإسلامية
وعندما عاد من فرنسا أسس الشيخ مصطفى عبد الرازق مادة الفلسفة الإسلامية وقام بتدريسها فى كلية الآداب جامعة القاهرة، ثم انتخب عضوا بالمجمع العلمي ومجمع اللغة العربية الملكي، وترأس لجنة الأوقاف الدينية بمجلس النواب، وفى عام 1938 عين وزيرا للأوقاف كأول أزهرى يتولاها، ومنح رتبة الباشوية وأصبح أول وزير أوقاف يرتدي العمامة، واستمر وزيرا للأوقاف فى سبع وزارات متعاقبة وكان فى نفس الوقت أستاذا للفلسفة بالجامعة.
يتحدث الشيخ مصطفى عبد الرازق عن الفلسفة التي يعشقها ويقول عنها: “إن هناك فلسفة جميلة منذ فجر الفكر الإنساني، وثبتت على أحداث التاريخ، وهى فلسفة كرام النفوس أولئك الذين عاشوا للعالم كله وظلوا على وفاق مع قانون المحبة وكان أول من مارسها الأنبياء”.
اختياره شيخا للأزهر
فى مثل هذا اليوم 27 ديسمبر عام 1945 تم ترشيح الشيخ مصطفى عبد الرازق بالإجماع من قبل هيئة كبار العلماء شيخا للأزهر، ورحب الملك السابق فاروق بذلك بعد موافقة مجلس النواب على قانون يساوي بين خريج الأزهر وخريج الجامعة ليصبح شيخ الأزهر رقم 36 فى تاريخ المشيخة، ورحل وهو في منصبه.
وما يدعو للإعجاب بشخص الشيخ مصطفى عبد الرازق أنه بعد اختياره شيخا للأزهر هذا المنصب الرفيع اتجه إلى قصر عابدين وتنازل عن لقب الباشوية مفضلا لقب الشيخ عليها، ونظرا لنزاهته وعلمه كافأه الملك باختياره أميرا للحج ورئيسا للبعثة لمصرية للحج.

وفى أحد مقالاته يتحدث الشيخ مصطفى عبد الرازق عن مشواره من الفلسفة فيقول: “كنت شيخا من شيوخ الأزهر أحمل شهادته، وألقي دروسا في مدرسة القضاء الشرعي، ثم استقلت من مدرسة القضاء الشرعي وتركت الأزهر، وذهبت إلى أوروبا أطلب العلم، وقامت الحرب العالمية فاضطررت للعودة إلى مصر قبل استكمال دراستي، وعينت سكرتيرا لمجلس الأزهر الأعلى، ثم مفتشا بالمحاكم الشرعية... وانتهى بي الحال إلى التدريس بجامعة القاهرة، وتنازع قلبي بين الدراسة في الأزهر أو الخروج إلى الحياة”.
وأضاف مصطفى عبد الرازق: “كتبت إلى الإمام الشيخ محمد عبده وكان صديقا لوالدى، أحكي له ما تنطوي عليه نفسي، مرت أيام وجاءني الأستاذ الإمام فجأة إلى دارنا ودعاني إلى مجلسه بطيب نفس بأنه هو من يمثل هذه الحال أيام الدراسة، ثم نصحني بالاستمرار في دروس الأزهر حتى أنال شهادته وبالفعل حصلت على العالمية ثم درست القضاء الشرعى ثم استقلت وكانت فرنسا محطتى”.
سيرة الشيخ محمد عبده
قدم الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى المكتبة العربية العديد من المؤلفات من أشهرها: ترجمة "رسالة التوحيد "، دراسة لشعر البهاء زهير، الدين الوحى والسلام..ويدور حول مفهو الدين فى الفكر الانسانى، فيلسوف العرب والمعلم الثاني، الإمام الشافعي وهو موضوع رسالته للدكتوراة، مذكرات مقيم، سيرة الشيخ محمد عبده.
مذكرات مسافر إلى باريس
كما أصدر الشيخ مصطفى عبد الرازق كتاب "مذكرات مسافر" عام 1914 سجل فيه انطباعاته عن باريس وكتب عن فنون الرسم والموسيقى والنحت فيها ووصفها بأنها عاصمة الدنيا. وهى المدينة التى تبحث عن الحياة، وبعد رحيله جمع أخوه الشيخ على عبد الرازق مجموعة من مقالاته التي نشرها في الجرائد والمجلات في كتاب تحت عنوان "من آثار مصطفى عبد الرازق" كتب مقدمته الدكتور طه حسين وصدر عام 1957.