محمد هاشم وزير الفوضى الخلاقة
كان كُتَّاب السلطة قد أشاعوا عن الراحل العظيم مصطفى كامل مراد رئيس حزب الأحرار أنه يؤجر الصحف الصادرة عن حزبه، وعندما التقيت الأستاذ فريد زهران الذي أصبح فيما بعد رئيسًا للحزب المصري الديمقراطي، وكان حينئذ يدير دار المحروسة قبل أن تصبح دارًا كبيرة بحجمها اليوم.
فاتحني الصديق فريد زهران في رغبته في إصدار صحيفة يسارية تعبر عن تيار ينتمي إليه ومعه رفاق لا يجدون في جريدة الأهالي مساحة لهم، وطلب أن أحدد له موعدًا مع مصطفى كامل مراد زعيم حزب الأحرار، وبالفعل فاتحت رئيس الحزب فيما طلبه مني فريد زهران.
وحددنا موعدًا والتقى الشاب فريد زهران والسياسي مصطفى كامل مراد، كان ذلك مع بدايات التسعينيات من القرن الماضي، ودار حوار ما زلت أتذكر تفاصيله، سأله مراد: أليست لديكم صحيفة في حزب التجمع؟ رد زهران: لا أنتمي إلى حزب التجمع وليست لدينا مساحة تعبر عن آرائنا، ربما لأن جيلًا معي لا يرى نفسه في التجمع.
وبعد مناقشات مستفيضة قال مراد: أحلم بأن تكون في كل قرية مصرية صحيفة، الصحافة أهم من الفأس في إصلاح القرى، الصحافة واحدة من أهم أدوات التعلم الديمقراطي وأهم سبل التنمية وأهم رقابي يمكن أن يقوم بدوره في كل شارع وكل حارة وكل قرية وكل نجع.
انتهت المقابلة بموافقة مصطفى مراد على أن يتولى فريد زهران إصدار صحيفة يسارية من حزب الأحرار الليبرالي، وخاطب الجهات الرسمية فعلًا. أتذكر أني سألت مراد يومًا كيف لحزب ليبرالي أن يمنح شبابًا يساريين ترخيصًا لصحيفة يسارية، فكان رده: وكيف تمنعني من إتاحة فرصة لجيل أن يعبر عن رأيه وتحول بيني وبينه في أن يجد وسيلة إعلامية شرعية يخاطب بها جمهوره!
سألني زهران: إن الرجل لم يفاتحنا فيما سندفعه تبرعًا للحزب.. قلت: هذا هو مصطفى كامل مراد يحلم بأن تكون لكل تيار صحيفة مهما كلفه الأمر.
ساعتها، عرفت محمد هاشم الشاب القادم من الغربية بكل تفاصيل بيئته العفوية إلى القاهرة شريكًا مع فريد زهران في المحروسة، وتعددت لقاءاتنا من أجل التجهيز لإصدار الصحيفة التي تقرر أن أكون أنا رئيس تحريرها ومعي سليم عزوز مديرًا للتحرير.
لم أكن أتصور أن تصبح سيطرة محمد هاشم سلطوية إلى هذا الحد، بعد عدة لقاءات بيننا أصبح فكرة لا يمكن العيش من دونها، أصبح محمد هاشم سطرًا في حياتي لا أنساه، من دون أن يبذل مجهودًا أن يقول عن نفسه معسول الكلام أو يزين وجهه بابتسامة مصطنعة.
كان محمد هاشم مساحة من الفوضى التي تعادل كل فوضى العالم، عليك أن تطرح المشكلة عليه من دون أن تتعقد جبهته يقول بسيطة، ليست هناك مشكلة، الأمر أبسط من تصوراتكم، يصول ويجول متحدثًا في فرعيات من دون أن نصل إلى حل، في النهاية تخرج من لديه وأنت على قناعة أنه لا مشكلة!
ومحمد هاشم أفشل وزير مالية يمكن أن تلتقيه في حياتك، بمجرد وصول أموال إليه لا تدخل جيبه، لديه ألف طريقة وطريقة لكي تغادر بسلام ومن دون ندم أو ألم. يستطيع وحده أن ينفق ميزانية دولة على عشاء مجموعة من أصحاب أو معارف أو حتى أناس لا يعرفهم وهو سعيد.
وعندما تقابله وهو يعاني ضائقة مالية فإن الأمر لديه ببساطة أنه لا مشكلة، نعم ليست لديه مشكلة وفي نفس الوقت ليس لديه حل. هذا النموذج الإنساني لم أقابل مثيلًا له في حياتي، ولا أنسى مواقف نبيلة له مع أشخاص لا يعرفهم فعلًا وقد لا يلقاهم مرة أخرى.
تعددت لقاءاتنا في كافيه علي بابا بفندق النيل هيلتون الذي أصبح الآن ريتز كارلتون للإعداد للصحيفة، نبدأ في التاسعة مساءً ونغادر في الثانية فجرًا، يبدأ اللقاء بالحديث عن حلم الصحيفة ويمضي بنا إلى مساحات لا علاقة لها بالصحافة ولا بالحلم.
ولم تصدر الصحيفة، وظلت علاقتي بمحمد هاشم هي كل تلك الأطياف الإنسانية في شخصيته العبقرية حتى تحول هاشم إلى وزير ثقافة وسط البلد، كنت أتابع نجاحاته وشطحاته وخروجه الدائم عن النص، وكلما جاء ذكره كنت أفخر بأنه صديقي..
صديقي الذي علمني أن الفوضى في بلد لا يعرف النظام تعد نظامًا عبقريًّا من تأليف وإخراج محمد هاشم صاحب دار ميريت.. ألف رحمة عليك يا محمد وإلى لقاء إن شاء الله.