أزمة أحمد مراد
عادة ما يستقبل أي نقد موجه إلى أحمد مراد بوصفه اعتراضا على النجاح ذاته، أو تعبيرا عن حسد أدبي، أو استعلاء نخبوي على ذائقة القارئ العام. وهذه الاستجابة الدفاعية، في حد ذاتها، تكشف مأزقا أعمق.. الخلط المزمن بين النجاح التجاري والقيمة الأدبية.
أحمد مراد كاتب ناجح بلا شك، استطاع أن يصنع لنفسه مكانا بارزا في سوق النشر العربي خلال فترة قصيرة نسبيا. غير أن النجاح، مهما بلغ، لا يصنع بالضرورة موهبة، ولا يمنح العمل الأدبي عمقا إنسانيا تلقائيا.
تعتمد معظم أعمال مراد على عنصر التشويق والغموض اعتمادا شبه كامل. من فيرتيجو إلى الفيل الأزرق، مرورا بالأصليين وبير الوطاويط و1919، تتغير القشور والفضاءات، لكن الهيكل السردي يبقى واحدا.. لغز فتصاعد فمفاجآت.. فنهاية محسوبة بدقة.
المشكلة هنا ليست في التشويق ذاته، فالتشويق عنصر مشروع ومهم، بل في تحوله إلى بديل عن العمق. يصبح هو الغاية لا الوسيلة، ويستخدم لتغطية فراغات إنسانية لا تملأ، وشخصيات لا تعاش، بل تدار كما تدار قطع الشطرنج.
في عالم أحمد مراد، الشخصيات غالبا أدوات لتحريك الحدث، لا كائنات مكتملة الوجود. نعرف عنها ما يخدم الحبكة فقط، لا ما يجعلها قابلة للحياة خارج النص. تحب وتكره وتنهار وتجرم، لكن دون أن تترك أثرا حقيقيا في وجدان القارئ.
نادرا ما نشعر بأن هذه الشخصيات تحمل جراحا معيشة، أو ذاكرة ثقيلة، أو تاريخا شخصيا يفسر أفعالها. هي موجودة لكي تؤدي دورها ثم تختفي. وكأن الرواية تقول للقارئ: المهم ما سيحدث، لا من سيحدث له ذلك.
تميل أعمال مراد إما إلى الخيال الصرف، أو إلى إعادة توظيف التاريخ، أو إلى فضاءات نخبوية مغلقة.. صحفيون، أطباء، أجهزة أمن، أسرار دولة. وحتى حين يقترب من المجتمع، يفعل ذلك من الخارج، بعيون المراقب لا المشارك.
لا نجد في كتاباته حضورا كثيفا للحياة اليومية العادية، ولا لوجوه الناس البسطاء، ولا لأوجاع تلمس بلا وساطة. الشارع حاضر كديكور، لا كتجربة. وكما يقول التعبير العامي الدقيق: هو شايف المشهد، مش عايشه.
وقد يفسر هذا الغياب افتقار النصوص إلى تلك الحرارة التي لا تأتي إلا من خبرة حياتية مباشرة، من الاحتكاك الحقيقي بالناس، لا من مراقبتهم من خلف زجاج نظيف.
نصوص أحمد مراد تشبه بناء هندسيا متقنا، حيث كل شيء في مكانه، كل تفصيلة محسوبة، كل مفاجأة ممهدة. لكن هذا الإحكام نفسه يتحول أحيانا إلى عبء. فالإفراط في السيطرة يفرغ النص من العفوية، ويبعده عن تلك الفوضى الإنسانية التي تصنع الأدب الحي.
نقرأ الرواية بسرعة، نعجب بالصنعة، نغلق الكتاب.. ثم لا يبقى شيء. لا جملة عالقة، لا شخصية تلاحقنا، لا سؤال مزعج. مجرد تجربة مسلية، قصيرة الأثر، مثل فيلم جيد يشاهد مساء الجمعة ثم ينسى.
الخلفية السينمائية لأحمد مراد واضحة، بل طاغية. هو يكتب بعين الكاميرا، ويفكر بالمشهد والقطع والإضاءة. ولهذا تتحول أعماله بسهولة إلى أفلام ومسلسلات. لكن هذه الميزة تحمل في داخلها مأزقا: النص غالبا لا يقف وحده.
اللغة مباشرة، وظيفية، تخدم الصورة ولا تتجاوزها. نادرا ما نجد جملة كتبت لذاتها، أو فقرة تراهن على التأمل، أو لغة تغامر خارج الإطار الآمن.
خلاصة القول.. أحمد مراد ليس كاتبا رديئا، لكنه أيضا ليس كاتبا كبيرا. هو حرفي ماهر، يعرف السوق، ويفهم القارئ، ويجيد صناعة الحكاية المثيرة. غير أن الأدب، في جوهره، ليس مجرد حكاية محبوكة، بل تجربة إنسانية تشارك، ووجع يفهم، وأسئلة تترك بلا إجابات سهلة.
حتى الآن، لم تخرج كتابات أحمد مراد من دائرة المتعة المصنوعة إلى فضاء الأثر الحقيقي. وربما يفعل ذلك يوما، وربما لا. لكن المؤكد أن أخطر ما يمكن أن يصيب الكاتب هو أن ينجح كثيرا.. دون أن يترك أثرا.