من التقديس إلى النقد، فيلم "الست" يشعل معركة شرسة بين الحقيقة والحرية الفنية
أعاد فيلم «الست»، الذي طُرح في 10 ديسمبر الجاري والذي يتناول السيرة الشخصية لكوكب الشرق أم كلثوم، فتْح واحدة من أقدم القضايا الجدلية في الدراما العربية، والمتعلقة بحدود التوازن بين الحقيقة التاريخية والرؤية الفنية، خاصة عند الاقتراب من رموز تحظى بمكانة استثنائية في الوجدان الجمعي.
وجاء عرض الفيلم، بعد أسابيع من تقديم مسرحية «أم كلثوم.. دايبين في صوت الست» في أكتوبر الماضي، ليشعل جدلًا واسعًا بين الأوساط النقدية والجمهور، حيث واجه العمل انتقادات حادة بلغت حد اتهامه بـ«المساس بالرموز الوطنية»، ما أعاد إلى الواجهة نقاشًا أعمق حول ضوابط تناول السير الذاتية في الدراما والأعمال الفنية.
وفي هذا الصدد أكد الكاتب والسيناريست مجدي صابر، أن الشخصيات التي تركت أثرًا مجتمعيًّا واضحًا في مجالات الفن أو العلم أو الثقافة، وعلى رأسها كوكب الشرق أم كلثوم، جديرة بتقديمها في أكثر من عمل فني، سواء عبر السينما أو الدراما التلفزيونية أو المسرح، لما تحمله من ثراء إنساني وتاريخي وتأثير راسخ في الوجدان العربي.
وعن التحدي الذي يواجه الكاتب عند تناول شخصية تحولت إلى «أسطورة» في وعي الجمهور، أوضح صابر أن الأمانة الفنية تفرض تقديم الشخصية بوصفها إنسانًا من لحم ودم، له ما له وعليه ما عليه، مؤكدًا أن الهدف ليس تعرية العيوب أو تشويه الصورة، وإنما رسم ملامح حقيقية بعيدًا عن المثالية المفرطة، وأضاف: «اعتدنا في عالمنا العربي أن نقدم أبطال السير الذاتية كأنهم ملائكة، بينما الحقيقة أنهم بشر يخطئون ويصيبون».
وأشار صابر إلى أن أي عمل فني لا يمكنه الإحاطة بكل تفاصيل حياة شخصية ما، لذا يضطر الكاتب إلى التركيز على جوانب ومحطات بعينها، لافتًا إلى أن المسلسل الدرامي يتيح مساحة أوسع للتفاصيل مقارنة بالفيلم السينمائي.
وشدد المؤلف على أن حرية الكاتب تتوقف عند حدود الحقائق الموثقة، مؤكدًا عدم جواز التلاعب بالثوابت التاريخية، ومحذرًا في الوقت نفسه من الانسياق وراء الشائعات أو الأقاويل المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرًا إلى أن الإبداع الحقيقي يجب أن يستند إلى وقائع مؤكدة لا إلى شائعات مغرضة.

من جانبها، قدمت الناقدة حنان شومان قراءة دقيقة للفروق بين أنماط السير، موضحة أن «السيرة الذاتية» يكتبها صاحبها بنفسه، مثل مذكرات سعد زغلول، وفي هذه الحالة يتعين على صُنَّاع العمل الالتزام بما ورد في النص الأصلي مع إدخال تعديلات درامية محدودة، أما «السيرة الشخصية» التي يتولاها كاتب آخر، فيجوز فيها الإضافة والابتكار، شريطة احترام روح العصر والسياقين السياسي والاجتماعي اللذين عاشت فيهما الشخصية.
ووجهت شومان انتقادات حادة للاتجاهات التي تتعمد تشويه الوقائع التاريخية، مستشهدة بمسلسل «كليوباترا» الذي عرضته منصة نتفليكس، والذي ظهرت فيه الملكة بملامح لا تمت للواقع التاريخي بصلة، مؤكدة أنه لا يجوز تبرير تغيير الحقائق الثابتة تحت شعار الحرية الإبداعية، قائلة: «لا يمكن للكاتب الادعاء بأن توت عنخ آمون لم يكن له إخوة، بينما تؤكد المصادر التاريخية عكس ذلك».
وبشأن الجدل المثار حول فيلم «الست»، أكدت الناقدة أن من حق المؤلف تخيل بعض الحوارات أو المواقف طالما جاءت منسجمة مع ملامح الشخصية، وإلا تحول العمل إلى فيلم تسجيلي لا دراما، وأشارت إلى أنها لم تُعجب بموسيقى هشام نزيه في الفيلم، معتبرة أنها لا تتناسب مع إرث أم كلثوم الفني، لكنها شددت في الوقت نفسه على أنه لا يحق لأحد أن يملي على المبدع ما يجب عليه فعله، موضحة: «يمكن انتقاد العمل بل واعتباره الأسوأ في التاريخ، لكن لا يصح أن أقول للكاتب كيف يكتب عمله، ومن يرغب في ذلك فليكتب هو العمل بنفسه».
كما أشارت الناقدة إلى خطأ وقعت فيه ـ بحسب رأيها ـ الجهة المنتجة لفيلم «الست»، تمثل في تقديم شخصية الصحفي محمد التابعي بصورة مهينة، كأنه صحفي هامشي يسعى خلف «تصريح» من نجمة شهيرة، بينما تؤكد الوقائع التاريخية أن التابعي كان من كبار نجوم الصحافة وصديقًا للملوك والملكات.
واعتبرت أن غياب الشخصية عن العمل كان سيكون أفضل من تقديمها بهذا الشكل، مضيفة: «على الكاتب أن يكون على دراية كاملة بالشخصيات التي يتناولها، وأن يدرسها جيدًا ويمنح كل شخصية حقها، وإلا فالأجدر ألا يقدمها من الأساس».
ورأت شومان أن حالة الجدل المبالغ فيها التي أثارها فيلم «الست» تثير الدهشة، موضحة أن حدة الهجوم أو الدفاع المستميت ترجع لدى البعض إلى شعور بالدونية يدفعهم إلى رفض أي نقد، سواء كان موجهًا للرموز أو للعمل الفني ذاته، وشددت على أن تخوين صناع الفيلم يمثل مبالغة غير مبررة، مؤكدة أن الفن بطبيعته مساحة للاختلاف، وأن الفيلم في النهاية مجرد رؤية فنية وليس معركة.

من جانبه أوضح الناقد محمود قاسم أن مسيرة عمالقة الفن، مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، أوسع بكثير من أن تختزل في فيلم سينمائي واحد، لافتًا إلى أن طبيعتهم الجدلية تفتح المجال أمام تعدد الرؤى والزوايا الفنية في تناول سيرهم، وضرب مثالًا بفيلم «طريق الدموع» الذي تناول حياة أنور وجدي، كاشفًا عن جوانب من طموحه الشديد وبخله في آن واحد.
وحول الجدل المتكرر بشأن «تشويه» الرموز مع كل عمل فني يتناول سيرة شخصية عامة، قال قاسم: إن الجمهور غالبًا ما ينظر إلى الرمز بوصفه صورة نقية، وأي مساس بتلك الصورة يُعد تشويهًا في نظره، وأضاف: «قد يكون إظهار أم كلثوم وهي تدخن في أماكن مغلقة حقيقة موثقة، لكن تقديمها للجمهور قد يُفسر على أنه إساءة».
وأشار إلى أن السينما الأمريكية نجحت في تقديم قادتها وشخصياتها التاريخية ككائنات بشرية مترددة ومليئة بالتناقضات، من دون أن ينتقص ذلك من قيمتهم أو مكانتهم.
وشدد قاسم على أهمية الالتزام بقدر من الوقار عند معالجة سير الشخصيات الحقيقية، موضحًا أن الوثائق التاريخية قد تتضمن تفاصيل صادمة، مثل ما يُقال عن تعاطي سيد درويش لبعض المواد في فترات معينة، والتي يُعتقد أنها كانت سببًا في وفاته، إلا أن السينما، بحسب قوله، غالبًا ما تميل إلى تهذيب هذه الصور احترامًا لمكانة الشخصية، كما حدث في فيلم «سيد درويش» الذي ركز على الجوانب الإيجابية من حياته ومسيرته الفنية.

واتفق النقاد في النهاية على أن دراما السير ليست إعادة كتابة للتاريخ بقدر ما هي قراءة إنسانية له، تسعى إلى تقريب الرموز الكبرى من الأجيال الجديدة، عبر تقديمها كبشر ألهموا مجتمعاتهم بقوتهم وضعفهم معًا، في مساحة يظل فيها الجدل جزءًا أصيلًا من قيمة العمل الفني.