مسلسل أزمات الفلاح عرض مستمر.. ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي.. غياب منظومة تسعير المحاصيل.. والسوق السوداء تتحكم في الأسمدة
في الوقت الذي تبذل فيه الحكومة جهودًا متواصلة لتحقيق قدر أكبر من السيادة الغذائية، والتوسع في الرقعة الزراعية، يواجه الفلاح المصري، باعتباره أحد الأعمدة الرئيسية للأمن القومي الغذائي، تحديات متزايدة تضغط على قدرته على الاستمرار في الإنتاج الزراعي.
فداخل الحقول والمزارع، تتشكل أزمة متراكمة تتعلق بارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي، وعلى رأسها التقاوي والمبيدات والأسمدة، إلى مستويات أصبحت تفوق إمكانات عدد كبير من المزارعين. ولم يعد هذا الارتفاع مجرد نتيجة لتقلبات مؤقتة في السوق، بل تحول إلى عامل أساسي يهدد استقرار النشاط الزراعي، ويجعل كثيرًا من الفلاحين عرضة لمخاطر الخسارة أو الخروج من دائرة الإنتاج.
وفي هذا السياق، ترصد «فيتو» تطورات سوق مستلزمات الإنتاج الزراعي، وتكشف كيف أصبحت بعض التقاوي نادرة أو مرتفعة السعر، وكيف تحولت تجارة المبيدات إلى مجال مفتوح للمضاربة، في وقت يتحمل فيه الفلاح أعباء مالية متزايدة تجعل اتخاذ قرار الزراعة محفوفًا بالمخاطر.
يوضح الخبير الزراعي رضا أبو العز أن ما يشهده القطاع الزراعي المصري هو انعكاس مباشر لمتغيرات عالمية، أبرزها الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والوقود، وما تبعه من زيادة في تكاليف الشحن والتصنيع. وقد انعكست هذه التطورات على أسعار مستلزمات الإنتاج المستوردة، خاصة الأسمدة والتقاوي، مشيرا إلى أن هذه الزيادات جاءت في وقت يشهد فيه المواطنون ارتفاعًا عامًّا في تكاليف المعيشة، ما جعل العائد من الزراعة غير كافٍ لتغطية احتياجات الأسرة أو سداد التزامات الموسم السابق، وهو ما يزيد من الضغوط الواقعة على المزارعين.
ويرى الخبير أن الأزمة تتفاقم نتيجة غياب منظومة تسعير واضحة ومعلنة للمحاصيل الزراعية، حيث يبدأ الفلاح موسم الزراعة من دون معرفة السعر المتوقع لمحصوله، ويظل خاضعًا لتقلبات العرض والطلب وظروف السوق المحلية والتصديرية. ويؤكد أن غياب التسعير العادل والمسبق يضع المزارع الصغير في موقف ضعيف، ويحرمه من القدرة على التخطيط الاقتصادي السليم.
ويضرب أبو العز مثالًا بمحصول العنب، موضحًا أن نسبة التصدير لا تتجاوز 15% من إجمالي الإنتاج، في حين يتم تسويق الكميات الأكبر داخل السوق المحلي. ومع زيادة المساحات المنزرعة وتراكم المعروض، تتراجع الأسعار إلى مستويات لا تغطي في بعض الأحيان تكاليف التعبئة والتداول، ما يضع المزارعين أمام خسائر مالية متكررة، مؤكدا أن التعامل مع هذه الإشكالية يتطلب التوسع في التصنيع الزراعي، وتحويل الفائض إلى منتجات ذات قيمة مضافة، مثل العصائر والمركزات، بدلًا من الاعتماد الكامل على التسويق الطازج.
من جانبه، يشير الخبير الزراعي صبحي أبو ليلة إلى أن الأزمة لا تقتصر على ارتفاع الأسعار، بل تمتد إلى جودة مستلزمات الإنتاج المتداولة في السوق. ويوضح أن ربط أسعار المنتجات الأصلية بسعر الدولار، إلى جانب احتكار بعض الموردين، أدى إلى انتشار منتجات مغشوشة وغير مطابقة للمواصفات في سوق المبيدات والأسمدة.
ويؤكد أن استخدام هذه المنتجات يتسبب في ضعف الإنتاج وتلف المحاصيل، كما يؤدي إلى تدهور التربة، وقد تكون له آثار سلبية على صحة المستهلك على المدى الطويل، في ظل ضعف الرقابة على الأسواق.
ويشير أبو ليلة إلى أن السوق السوداء أصبحت عنصرًا مؤثرًا في تحديد الأسعار وجودة المنتجات، مستفيدًا من غياب رقابة كافية على تداول مستلزمات الإنتاج، ما يزيد من الأعباء التي يتحملها الفلاح، ويؤثر في الوقت نفسه على سلامة المنتج الزراعي.
ويلفت الخبير إلى وجود فجوة كبيرة بين سعر المنتج عند المزرعة وسعره للمستهلك النهائي، نتيجة تعدد حلقات التسويق. ففي بعض الحالات، يمر المحصول عبر ثلاث أو أربع مراحل، تحصل كل منها على هامش ربح، بينما يبقى نصيب المزارع محدودًا، مقارنة بحجم الجهد والتكلفة التي يتحملها.
ويرى أن تقليص عدد الوسطاء، وتطوير منظومات تسويق أكثر كفاءة، يمكن أن يسهم في تحسين دخل المزارع وخفض الأسعار على المستهلك.
واقترح صبحي أبو ليلة الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي كأداة لدعم التسويق المباشر بين المزارعين والمستهلكين أو المصانع، بما يساعد على تحسين العائد وتقليل حلقات الوساطة.
وفى ذات السياق يجيب المهندس محمود عطا وكيل وزارة الزراعة لشئون البساتين والمحاصيل الزراعية عن أهم الاسئلة التي فرضت نفسها بحثًا عن حلول لأزمة ملف الدواجن والثروة الداجنة.
أكد المهندس محمود عطا أن ملف تسعير المحاصيل الزراعية لا يزال يواجه تحديات حقيقية، مشيرًا إلى أن الحديث عن وجود خطط واضحة ومعلنة لربط أسعار التوريد بتكلفة الإنتاج لا يمكن اعتباره دقيقًا في المرحلة الحالية.
وأوضح عطا أن غياب الإعلان المسبق عن سياسات تسعير واضحة يضع المزارع في حالة من عدم اليقين، إذ لا يستطيع تحديد خريطة زراعاته أو المساحات التي سيخصصها لكل محصول، في ظل تقلبات الأسعار وارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج.
وأضاف أن المحصول الوحيد الذي يخضع لتسعير واضح ومحدد من الدولة هو محصول القمح، نظرًا إلى اعتباره محصولًا استراتيجيًّا يرتبط بالأمن الغذائي، وتحرص الدولة على ضمان زراعته وتوريده من خلال إعلان سعر استرشادي قبل موسم الزراعة، بما يمنح الفلاح قدرًا من الطمأنينة.
وأشار وكيل وزارة الزراعة إلى أن بقية المحاصيل لا تزال تخضع في معظمها لآليات العرض والطلب، وهو ما يجعل المزارع يتحمل مخاطر السوق بمفرده، سواء من حيث تقلب الأسعار أو فجوة التكلفة والعائد، مؤكدًا أن هذا الوضع يحتاج إلى مراجعة شاملة.
ولفت إلى أن وجود سياسة تسعير عادلة ومعلنة مسبقًا لا يخدم الفلاح فقط، بل يساعد الدولة نفسها على توجيه التركيب المحصولي، وتحقيق توازن بين احتياجات السوق المحلي وفرص التصدير، وتقليل الفاقد والاختناقات الموسمية في بعض السلع الزراعية.
وشدد محمود عطا على أن المرحلة المقبلة تتطلب تنسيقًا أوسع بين وزارات الزراعة والتموين والمالية، لوضع إطار عام لتسعير المحاصيل الأساسية، يأخذ في اعتباره تكلفة الإنتاج الفعلية، وهامش ربح عادل للمزارع، مع الحفاظ على استقرار الأسعار للمستهلك.
كما أن استدامة الزراعة المصرية لن تتحقق إلا من خلال وضوح الرؤية أمام المزارع، لأن الزراعة قرار اقتصادي في المقام الأول، وكلما زادت درجة اليقين، زادت قدرة الفلاح على الإنتاج والاستثمار في أرضه.
أكد محمود عطا، أن استمرار ظاهرة تسرب الدعم الزراعي ووجود سوق سوداء، رغم تطبيق منظومة الرقمنة والحيازات الإلكترونية، يرجع بالأساس إلى وجود خلل في إدارة المنظومة وليس في أدواتها التكنولوجية.
وأوضح عطا أن الرقمنة تمثل خطوة مهمة لضبط توزيع الدعم، لكنها ليست حلًّا سحريًّا إذا لم تُدار المنظومة بواسطة كوادر متخصصة تمتلك خبرة حقيقية في الاقتصاد الزراعي وإدارة سلاسل الإمداد، مشيرًا إلى أن بعض القائمين على المنظومة يفتقرون إلى الخلفية الفنية والإدارية اللازمة لإدارة ملف شديد التعقيد والحساسية.
وأضاف أن غياب التخصص يؤدي إلى ثغرات في التطبيق الميداني، ما يسمح بتسرب الدعم أو إعادة توجيهه بطرق غير مشروعة، رغم وجود قواعد بيانات إلكترونية وحيازات مسجلة، مؤكدًا أن المشكلة تكمن في آليات التنفيذ والمتابعة أكثر من كونها في البنية الرقمية نفسها.
وأشار وكيل وزارة الزراعة إلى أن تفاوت مستويات الكفاءة بين الإدارات المختلفة، وغياب التنسيق الكامل بين الجهات المعنية، يسهمان في استمرار السوق السوداء، خاصة في ملفات الأسمدة والمدخلات المدعمة، حيث تستغل بعض الحلقات الوسيطة هذه الثغرات لتحقيق مكاسب غير مستحقة.
البورصة الزراعية
أكد عطا أن ملف إنشاء بورصة زراعية فعالة لا يزال مطروحًا على طاولة النقاش، لكنه يندرج ضمن الملفات التي تتطلب قرارًا سياسيًّا وتنفيذيًّا من الوزير المختص بالتنسيق مع الجهات المعنية.
وأوضح عطا أن الوزارة على المستوى التنفيذي لا يمكنها الجزم بوجود قرار نهائي حتى الآن، مشيرًا إلى أن الوزير المختص قد تكون لديه رؤية أو إجابة أوضح بشأن توقيت إطلاق مثل هذه المنظومة، خاصة في ظل تشابك الاختصاصات بين أكثر من جهة معنية بالتسعير والتسويق.
وأضاف أنه في حال وجود نية حقيقية لإطلاق بورصة زراعية، فإن الأهم من الإعلان عن الفكرة هو إعلان آليات التنفيذ، موضحًا أن الفلاح لا تعنيه التصريحات العامة بقدر ما يهمه معرفة متى ستُطبق البورصة، وكيف ستعمل، وما الضمانات التي توفرها له عند تسويق محصوله.
كما أكد الدكتور محمود عطا أن تصاعد مديونيات الفلاحين في السنوات الأخيرة لا يمكن فصله عن الارتفاع الكبير في تكاليف الإنتاج، إلى جانب الخسائر الناتجة عن التغيرات المناخية، مشيرًا إلى أن أحد أبرز التحديات يتمثل في طبيعة التمويل الزراعي المتاح حاليًّا.
وأوضح عطا أن البنك الزراعي المصري شهد تحولًا جوهريًّا من كونه بنكًا للتنمية والائتمان الزراعي إلى كيان مصرفي يعمل وفق منطق ربحي بحت، الأمر الذي انعكس على سياساته التمويلية، سواء من حيث أسعار الفائدة أو شروط السداد، وهو ما زاد من الضغوط الواقعة على الفلاحين، خاصة صغار المزارعين.
وأضاف أن هذا التحول أضعف الدور التنموي للتمويل الزراعي، وجعل الفلاح يتعامل مع الزراعة كعبء مالي لا كمشروع إنتاجي قابل للاستمرار، في ظل غياب آليات مرنة لإعادة جدولة الديون أو مراعاة طبيعة النشاط الزراعي المرتبط بالمخاطر المناخية والتقلبات السعرية.
وأكد الدكتور محمود عطا، وكيل وزارة الزراعة، أن قطاع الدواجن والثروة الداجنة سيظل عرضة للأزمات المتكررة طالما استمرت الاعتماديات الكبيرة على استيراد خامات الأعلاف ومكوناتها الأساسية من الخارج، من دون وجود دعم حقيقي لزراعة المحاصيل الاستراتيجية المرتبطة بالصناعة.
وأوضح عطا أن الذرة الصفراء وفول الصويا يمثلان أكثر من 80% من مكونات الأعلاف، ورغم ذلك لا يحظيان بالاهتمام الكافي في الخريطة الزراعية، الأمر الذي يجعل القطاع رهينة لتقلبات الأسعار العالمية، وأزمات العملة، واضطرابات سلاسل الإمداد الدولية.
وأضاف أن أي حديث عن دعم عاجل لقطاع الدواجن يجب أن يبدأ من توطين مدخلات الإنتاج، وليس الاكتفاء بحلول مؤقتة، مؤكدًا أن استدامة القطاع لن تتحقق من دون خطة واضحة للتوسع في زراعة المحاصيل العلفية الاستراتيجية محليًّا.
وأشار وكيل وزارة الزراعة إلى أن أحد التحديات الجوهرية يتمثل في طبيعة الإدارة داخل منظومة الإنتاج الحيواني الرسمية، لافتًا إلى أن وجود عناصر غير متخصصة، وتجاوز بعضها السن القانونية لتولي المناصب التنفيذية، ينعكس سلبًا على كفاءة اتخاذ القرار ومواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية في هذا القطاع الحيوي.
التعاونيات الزراعية
وفي السياق ذاته، انتقد عطا حالة الترهل التي تعاني منها التعاونيات الزراعية، مؤكدًا أنها فقدت دورها الحقيقي كأداة دعم وتنظيم للفلاحين والمربين، وتحولت في كثير من الأحيان إلى كيانات شكلية لا تمارس دورًا إنتاجيًّا أو تسويقيًّا فعالًا.
وأوضح أن الجمعيات المتخصصة، سواء في الخضر والفاكهة أو القطن أو الميكنة الزراعية، أصبحت أقرب إلى مقار إدارية تُعقد فيها الاجتماعات وتُصرف المكافآت، من دون أن تقدم خدمات حقيقية أو حلولًا عملية للمزارعين، في حين يفتقر الاتحاد التعاوني الزراعي إلى رؤى علمية وعملية قادرة على بناء منظومة متكاملة تخدم الإنتاج والتسويق والتصنيع.
وشدد وكيل وزارة الزراعة على أن إنقاذ قطاع الدواجن لا يتطلب فقط تدخلات سعرية مؤقتة، بل يستلزم إصلاحًا هيكليًّا شاملًا يبدأ من إعادة بناء منظومة الأعلاف، مرورًا بإعادة هيكلة الإدارة، وانتهاءً بإحياء الدور الحقيقي للتعاونيات الزراعية.
واختتم الدكتور محمود عطا تصريحاته بالتأكيد على أن قطاع الدواجن يمثل ركيزة أساسية للأمن الغذائي المصري، وأن استمرار أزماته يمثل تهديدًا مباشرًا لاستقرار أسعار الغذاء، محذرًا من أن غياب الرؤية العلمية والإدارة المتخصصة سيُبقي القطاع في دائرة الأزمات مهما تعددت الحلول المؤقتة.
وتؤكد الدكتورة درية ماضي، خبيرة الاقتصاد، أن أزمة الفلاح لم تعد أزمة موسمية أو ظرفية، بل تحولت إلى أزمة هيكلية تهدد استدامة الإنتاج الزراعي، وتنعكس بشكل مباشر على الأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية.
كما توضح الدكتورة درية ماضي أن الزيادة المتواصلة في تكاليف الإنتاج تمثل الضغطة الأكبر على الفلاح، مشيرة إلى أن أسعار الأسمدة، سواء المدعمة أو الحرة، شهدت قفزات غير مسبوقة، إلى جانب ارتفاع أسعار التقاوي والمبيدات، فضلًا عن السولار ومستلزمات الري.
وتضيف أن المشكلة لا تكمن فقط في ارتفاع التكلفة، بل في ثبات أو تراجع العائد، ما يجعل دورة الإنتاج الزراعي غير مجدية اقتصاديًّا، ويدفع بعض الفلاحين للعزوف عن الزراعة أو تقليص المساحات المنزرعة.
وتنتقد خبيرة الاقتصاد غياب منظومة عادلة ومسبقة لتسعير المحاصيل الزراعية، مؤكدة أن الفجوة بين سعر التوريد الحكومي وسعر السوق الحر تُفقد الفلاح أي إحساس بالأمان.
وتشير إلى أن عدم ربط أسعار التوريد بتكلفة الإنتاج الفعلية يجعل الفلاح الطرف الأضعف في المعادلة، حيث يتحمل مخاطر الزراعة كاملة من تقلبات الأسعار والخسائر المحتملة من دون وجود ضمان حقيقي للعائد.
وتؤكد الدكتورة درية ماضي أن سيطرة الوسطاء على منظومة التسويق الزراعي أدت إلى تشوه كبير في الأسعار، إذ يبيع الفلاح محصوله بسعر منخفض، بينما يصل إلى المستهلك بأسعار مرتفعة.
وترى أن غياب بورصة زراعية فعالة، وضعف منافذ التسويق الحكومية، حرما الفلاح من آلية عادلة لتسويق إنتاجه، وكرسا واقعًا غير متوازن في توزيع الأرباح داخل السلسلة الإنتاجية.
وفي ملف التمويل، تشير الخبيرة الاقتصادية إلى تعثر عدد كبير من الفلاحين في سداد القروض نتيجة ضعف العائد، وصعوبة الحصول على تمويل ميسر يتناسب مع طبيعة النشاط الزراعي.
وتضيف أن فوائد القروض وغرامات التأخير تمثل عبئًا إضافيًّا، تجعل الفلاح عالقًا بين ضرورة الاستمرار في الإنتاج وخطر الوقوع في دوامة الديون.
وتلفت الدكتورة درية ماضي إلى أن دعم الأسمدة والوقود لا يصل دائمًا إلى مستحقيه، بسبب نقص الحصص المدعمة، وتفاوت التوزيع بين المحافظات، ووجود سوق سوداء تستنزف الدعم، وتؤكد أن غياب الرقابة والعدالة في التوزيع يُفرغ منظومة الدعم من مضمونها الحقيقي.
وتنتقد خبيرة الاقتصاد شروط توريد بعض المحاصيل الاستراتيجية، ومواعيد صرف المستحقات، فضلًا عن مشكلات الشون والصوامع، مؤكدة أن التوريد الإجباري في بعض الأحيان لا يقابله سعر عادل أو صرف منتظم، ما يزيد من الأعباء على الفلاح.
وتختتم الدكتورة درية ماضي بالتأكيد على أن قطاع الدواجن يواجه تحديات مشابهة، أبرزها ارتفاع تكلفة الأعلاف، وصعوبة تدبير التمويل، وتذبذب السياسات، مطالبة بدعم مستدام للثروة الداجنة باعتبارها أحد أعمدة الأمن الغذائي وتوفير البروتين منخفض التكلفة.
وقالت الدكتورة يمن الحماقي، أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس: إن الارتفاع المتسارع في تكاليف الإنتاج الزراعي خلال الفترة الماضية جاء نتيجة زيادة متزامنة في جميع عناصر التكلفة تقريبًا، وفي مقدمتها أسعار الطاقة عقب تحريرها، إلى جانب ارتفاع تكلفة الأسمدة والتقاوي والمبيدات التي يدخل في تصنيعها مكونات مستوردة تأثرت بتغيرات سعر الصرف.
وأضافت «الحماقي» في تصريح خاص لـ«فيتو» أن ارتفاع أسعار المياه وأجور العمالة الزراعية ساهم بدوره في زيادة الأعباء على الفلاح، موضحًا أن المشكلة الأساسية لا تكمن فقط في ارتفاع التكاليف، بل في عدم قدرة أسعار المحاصيل الزراعية على مواكبة هذه الزيادات، ما يخلق فجوة واضحة بين تكلفة الإنتاج والعائد الحقيقي للفلاح.
وأوضحت أستاذ الاقتصاد أن الفلاح لا يستطيع تحميل المستهلك كامل الزيادة في التكلفة، لأن ذلك سيؤدي إلى ضعف القدرة الشرائية وتراجع الطلب، وهو ما ينتج عنه خلل واضح في السوق الزراعية، خاصة مع تسعير كثير من المحاصيل بأسعار منخفضة لا تعكس التكلفة الفعلية للإنتاج.
وأشارت إلى أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على القطاع الزراعي فقط، لكنها كانت أحد الأسباب الرئيسية لتباطؤ النشاط الاقتصادي بشكل عام، نتيجة الارتفاع الحاد في تكاليف الإنتاج والمغالاة في التسعير في بعض القطاعات من دون الاعتماد على أسس اقتصادية سليمة.
وأكدت يمن الحماقي أن غياب آليات التسعير العادل والمسبق للمحاصيل الزراعية يمثل تحديًا رئيسيًّا أمام تحقيق الاستقرار في هذا القطاع، لافتة إلى أن فتح أسواق تصديرية قادرة على استيعاب المنتجات الزراعية بأسعار أفضل قد يسهم نسبيًّا في تعويض الفلاح عن جزء من الخلل القائم، لكنه لا يغني عن ضرورة ربط أسعار التوريد بتكلفة الإنتاج الحقيقية بهامش ربح عادل.
وأكدت أستاذة الاقتصاد، أن أحد أخطر أسباب ارتفاع أسعار الخضراوات والفاكهة في السوق المحلية لا يرتبط بتكلفة الإنتاج بقدر ما يرتبط بغياب دور الدولة في ضبط كفاءة الأسواق، ما أتاح المجال لوسطاء غير مؤهلين للسيطرة على حركة التداول وتحقيق مكاسب على حساب الفلاح والمستهلك معًا.
وقالت: إن الفجوة الكبيرة بين سعر المنتج عند باب المزرعة وسعره في الأسواق النهائية تكشف بوضوح عن احتكار الوسطاء لحلقات التسويق، ورفع تكلفة الوساطة بشكل مبالغ فيه، وهو ما يؤدي في النهاية إلى وصول المنتج للمستهلك بأسعار مرتفعة من دون مبرر حقيقي في عناصر التكلفة.
وأوضحت أن الحل الجذري يكمن في إنشاء بورصات سلعية حقيقية تلتقي فيها قوى العرض والطلب بشفافية، بما يضمن تسعيرًا عادلًا وكفؤًا، مشيرة إلى أن الحديث المتكرر عن إنشاء مثل هذه البورصات لم ينعكس حتى الآن في نتائج ملموسة على أرض الواقع، سواء في الخضر والفاكهة أو حتى في قطاع الدواجن، الذي يعاني بدوره من احتكار القلة وغياب الانضباط السعري.
وأضافت أن أحد أوجه الخلل الأساسية يتمثل في غياب قواعد بيانات دقيقة لدى الدولة، توضح التكلفة الحقيقية للإنتاج، سواء في الزراعة أو الدواجن، بداية من مدخلات الإنتاج وحتى التكلفة النهائية، وهو ما يفتح الباب أمام التسعير العشوائي والاتفاقات الاحتكارية بين عدد محدود من المسيطرين على السوق.
وفيما يتعلق بمنظومة الدعم الزراعي، شددت على أن المشكلة لا تكمن فقط في نقص الأسمدة المدعمة، بل في ضعف شبكات التوزيع وعدم وصول الدعم إلى مستحقيه بكفاءة، مؤكدة أن استمرار الدعم العيني من دون قواعد بيانات دقيقة يفرغ المنظومة من مضمونها.
وأشارت إلى أن تحويل الدعم من عيني إلى نقدي يظل الحل الأمثل، لكنه يظل معلقًا بسبب ضعف تنقية البيانات وعدم التأكد من وصول الدعم للفئات المستحقة، لافتة إلى أن أعداد المستفيدين الحالية من الدعم التمويني تثير تساؤلات جدية حول معايير الاستحقاق.
كما أكدت أن إصلاح القطاع الزراعي لا يمكن أن يتحقق من دون تبني الزراعة التعاقدية وتفعيل دور التعاونيات، موضحة أن تفتيت الملكية الزراعية أضر باقتصاديات الإنتاج، وأن التعاونيات تمثل الأداة الأهم لتجميع الحيازات الصغيرة وتحقيق كفاءة الإنتاج، إلا أن القوانين المنظمة لها ما زالت قديمة ولا تتناسب مع متطلبات المرحلة الحالية.
وحذرت من الخسائر الاقتصادية الضخمة الناتجة عن التغيرات المناخية، والتي تُقدر بالمليارات، مؤكدة ضرورة إعداد خريطة زراعية قومية حديثة تراعي التغيرات المناخية وتحدد أنسب المحاصيل لكل منطقة وفقًا للموارد المائية والجدوى الاقتصادية، سواء للسوق المحلي أو التصدير أو التصنيع.
واختتمت بالتأكيد على أن مواجهة هذه التحديات تتطلب عملًا مؤسسيًّا جادًّا، يعتمد على التخطيط العلمي، وتحديث قواعد البيانات، ورفع كفاءة العنصر البشري، باعتبارها الركائز الأساسية لإصلاح منظومة الإنتاج الزراعي في مصر.
المبيدات الزراعية
قالت نوال خميس إحدي رائدات الزراعة في الفيوم: إن مشكلات الزراعة في المحافظة تكاد تكون معروفة للجميع، لكن لا أحد يقدم الحلول المناسبة، فهي تتركز في ارتفاع أسعار المحروقات التي حولت الزراعة الي عذاب الفلاح، بعد أن ارتفعت أسعار الحرث والري والتسوية والدراس، فقد بلغ إيجار الساعة الواحدة لأي معدة زراعية 500 جنيه، وهذا مكلف جدا للمزارع.
وأضافت رائدة الزراعة: إن المبيدات الزراعية والمخصبات أصبحت كلعبة القمار تشتري بأعلي الأسعار وضمان النتيجة غير معلوم، فقد كثر التلاعب في الجودة والإصلاحية للمبيدات والمخصبات، فكثيرا ما يتم تعديل تواريخ الصلاحية، أو أن يتم التلاعب في المادة الفعالة ولا رقابة من وزارة الزراعة، أو حتى توفير البديل الآمن عن طريق الجمعيات الزراعية، فمع نقص المبيدات والمخصبات بالجمعيات يضطر المزارع إلي اللجوء للقطاع الخاص، ومعظم تجار المبيدات يلجأون إلي أنواع غير مسجلة بوزارة الزراعة أو ممنوع تداولها، لأنها الأقل في السعر عن المعتمدة، والمزارع يضطر للشراء واستخدام مبيدات غير معتمدة، لأنه في حاجة إلي جنب محصوله بدلا من أن تفتك به الأمراض.
التقاوي والأسمدة
وتابعت: إن وزارة الزراعة تمد الجمعيات الزراعية بالأسمدة علي حلقات، وهذه السياسة لا تتناسب وطرق الزراعة، فيجبر المزارع علي اللجوء للقطاع الخاص الذي ضاعف الأسعار من 3 إلي 4 أضعاف القيمة الحقيقية للسماد، أما التقاوي فإنها أصبحت كارثة حقيقية لأن تقاوي وزارة الزراعة غير صالحة، وتقاوب القطاع الخاص أثمانها باهظة، فشكارة التقاوي 5 كيلو جرام ذرة وصل سعرها 1200 جنيه، وشيكارة تقاوي القمح 30 كيلو سعرها 900 جنيه، ومحطات الغربية التابعة لوزارة الزراعة تحولت العمل لحساب القطاع الخاص لأنه أكثر ربحية من العمل لحساب الدولة.
الأرز بريء من إهدار المياه
ولفتت إلى أن الدكتور يوسف والي أوفدها إلى إندونيسيا لجلب تكنولوجيا زراعة القمح غير المستهلك للمياه، وبالفعل تم تجربته في أرضها بقرية بيهموا، ونجحت التجربة في توفير 75% من استهلاك المياه، إلا أن رحيل الدكتور يوسف والي وأد التجربة، وحاولنا كثيرا التواصل مع وزارتي الزراعة والري لكن لا مجيب، فيضطر المزارع إلي الزراعة خلسة بالطرق التقليدية، وتوقع عليه غرامة تؤدي إلي ارتفاع تكلفة المحصول، لكن القمح بريء من إهدار مياه الري.
الإرشاد الزراعي
وأكدت نوال خميس أن تخفيض القوى العاملة للجهاز الإداري في الدولة، ووقف التعيينات أدي إلي تفريغ الجمعيات الزراعية من الكوادر، حتى إن المرشد الزراعي الآن أصبح عملة نادرة، وحملات الإرشاد التي تنظمها مدرسات الزراعة غير مجدية، لأنها علي فترات متباعدة، ولا تراعي طبيعة الفلاح ولا مواسم الزراعة التقليدية، فأصبح كل مزارع يجتهد علي قدر خبراته، ومعظمهم من غير المتعلمين ومصدر معلوماته الوحيد كان المرشد الزراعي.
القطن
أما القطن فهذا كارثة بكل المقاييس لأن الدكتور يوسف والي كان قد أعد مشروعا لزراعة القطن طويل النيابة بعيدا عن الدلتا إلا أن المشروع أيضا انتهى مع إبعاده عن الزراعة، والأنواع التي تزرع في الوجه القبلي ضعيفة الإنتاج مقارنة بالتكلفة، خاصة أن المزارع يضطر للمقاومة اليدوية بعد ضعف مردود المقاومة الكيماوية، ولفتت إلي أن الدولة نجحت قبل ثورة يناير في زراعة قطن خال من المبيدات إلا أن التجربة أيضا توقفت بعد تغييرات قيادات وزارة الزراعة، وطالبت الدولة بنظرة للفلاح الذي هو عماد الاقتصاد في الدولة، ويحتاج إلى دعم مادي ومعنوي حتى يستمر في المسيرة رغم ضعف العائد من الزراعات التقليدية