عباقرة ولكن مجهولون، ابن ملكا "اليهودي" مكتشف قوانين الحركة قبل نيوتن
على مر التاريخ الإسلامي لمعت أسماء عباقرة في مختلف المجالات مثل: ابن الخطاب، والصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، والبخاري، والشافعي، وابن حنبل، ابن سينا.. ابن رشد.. الكندي.. الفارابي.. الخوارزمي.. الطبري.. أبو حامد الغزالي.. البوصيري.. حتى محمد عبده.. المراغي.. المنفلوطي.. رفاعة الطهطاوي.. طه حسين.. العقاد.. أحمد شوقي.. عبد الحليم محمود.. محمد رفعت.. النقشبندي.. الحصري.. عبد الباسط.. وغيرهم، في العصر الحديث.
لكن هناك أسماء مهمة كان لها بصماتها القوية على العلم والحضارة، ولا يكاد يعرفها أحد، وفي هذه الحلقات نتناول سير بعض هؤلاء العباقرة المجهولين.
ابن ملكا اليهودي، اكتشف قوانين الحركة قبل نيوتن
ابن ملكا البلدي كان يلقب بـ"أوحد الزمان"، طبيب وفيلسوف بارز في القرن السادس الهجري، اعتنق الإسلام بعد أن كان يهوديًّا، وذاع صيته في بغداد لمعالجته الأمراض النفسية، وكرمه في خدمة الفقراء.
وهو هبة الله بن علي بن ملكا البلدي أبو البركات، عرف في زمانه بأوحد الزمان، عالم طب وصيدلة.
مولده ونشأته
ولد ببلدة "بلد" على شاطئ نهر دجلة شمالي مدينة الموصل بالعراق، وسكن بمدينة بغداد، ونال الحظوة عند الخليفة المستنجد بالله.
اشتهر بمعالجة الأمراض النفسية، وتعرض وهو بمدينة همذان لمحنة قاسية، حين فشل في علاج زوجة السلطان محـمد بن ملك شاه، وكان السلطان لها محبًّا فأمر بسجنه زمنًا ثم عفا عنه، وأطلق سراحه، فعاد إلى بغداد واسع الثراء، وصارت له ببغداد عيادتان في حيي الكرخ، والرصافة.
وكان يعالج الفقراء بلا أجر، ويشتري لهم الدواء من ماله الخاص، وقد وجد ابن ملكا إثر عودته إلى بغداد أن زوجته وبناته الثلاث قد فارقنه لإسلامه.
كان مولد أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي البغدادي في عام 480 هـ، الموافق للسنة 1077 ميلادية، لعائلة يهوديةٍ متعصبةٍ، اختارت له اسم ناثانيل العبري، ولأنّ القانون السائد في البصرة، آنذاك، كان يقضي بمنع اليهود من حضور محاضرات علّامة البصرة أبي الحسن ابن هبة الله، رغم كثرتهم؛ (فاق عددهم 25 ألفًا بالمدينة العراقية) فقد صعّب ذلك على أبو البركات مساره العلمي، إلا أنّ كان يسترق السمع من وراء الجدران وتعلم الكثير بهذه الطريقة الغريبة!!
اتسم أبو البركات بالشغف بالعلم ومجالسة العلماء، واستطاع أن يبرز سريعًا بين تلاميذ أبي الحسن، وصار المقرّب إلى شيخ البصرة.
وبسبب شهرته، استعان به الملوك والخلفاء، فخدم المسترشد بالله العباسي سنة 512 هـ لتبدأ حياة أبي البركات مع المتاعب، حيث وقع في أسر السلطان مسعود الذي شنّ حربًا على المسترشد سنة 529 هـ، لكن نجاحه في علاج أحد السلاطين جعل السلطان مسعود يطلق سراحه، ويغدق عليه بالعطايا، بعدها أشهر إسلامه وعاد إلى بغداد حيث اعتكف مع طلبته في الحلقات للتدريس وتخريج الطلاب.
تلاميذه
كان من تلاميذه: موفق الدين البغدادي صاحب كتاب "في علم ما بعد الطبيعة"، وجمال الدين ابن فضلان المعروف برحلته الشهيرة.
إنجازاته العلمية
استحدث ابن ملكا دواءً أسماه: "برشعثا"، ومعجونًا أسماه: "أمين الأرواح".
وكان أحد العلماء المسلمين الثلاثة في العصور الوسطى، الذين سبقوا العالم نيوتن باكتشاف قوانين الحركة الثلاثة، التي يعزى الفضل في اكتشافها إلى العالم الإنجليزي نيوتن، وأول هؤلاء العلماء هو ابن سينا، وتلاه: ابن ملكا، ثم فخر الدين الرازي.
مؤلفاته
لابن ملكا كتاب في الأدوية المركبة هو: "كتاب الأقراباذين".
وله مقالة في الدواء الذي استحدثه وأسماه: "برشعثا"، ومقالة في معجون آخر ألَّفه وأسماه: "أمين الأرواح".
وله في الطب كتاب: "اختصار التشريع من كلام جالينوس".
وصف ابن العبري، ابن ملكا وكتابه «المعتبر في الحكمة» من خلال كتابه «تاريخ مختصر الدول»، أنّه «كان طبيبًا بارعًا وفاضلًا وعالمًا بعلوم الأوائل وكان حسن العبارة، لطيف الإشارة صنّف كتابًا سمّاه المعتبر أخلاه من النوع الرياضي، وأتى به بالنوع المنطقي والطبيعي والإلهي، فجاءت عبارته فصيحة ومقاصده في ذلك الطرق الصحيحة».
"المعتبر في الحكمة"
و"المعتبر في الحكمة"، هو کتاب موسوعي في ثلاثة أجزاء عن: "النبات والحيوان والحكمة الإلهية والطبيعيات"، وقد تحدث ابن ملكا في الجزء الثالث منه عن الطبيعيات من صوت، وضوء، وحركة.
بتأليفه لكتابه المعتبر، ارتفعت أسهم أبي البركات، فصار يلقب بـ«فيلسوف العراقيين».
الغريب أنه لم يأخذ حظه من الشهرة في كتب المؤرخين الإسلاميين، حيث تخلو قوائم الفلاسفة المعتمدة في عصرنا الحالي من أي ذكر لأبي البركات البغدادي، رغم أنّ ابن ملكا سار في كتابه "المعتبر" على نهج الفلاسفة العرب والمسلمين، ونسخ الكتاب الخطية تملأ مكتبات العالم.
وصفه البيهقي في كتاب «تاريخ حكماء الإسلام» بأنه نال رتبة أرسطو، ويمكن تلمس مبادئ المنهج العلمي الحديث عند ابن ملكا في قوله في كتابه «المعتبر في الحكمة»: «فعلى هذا يسهل طريق التعليم الحكمي الذي يكون بالنظر والاستدلال، وهذا القانون بعينه يستعمل في هذا العلم المسمى بالعلم الطبيعي، المنسوب إلى الطبيعة».
يقول الفيلسوف موشيه بافلوف في كتابه «الفلسفة الميتافيزيقية لأبي البركة البغدادي: كتاب المعتبر» إنّ ابن ملكا استطاع من خلال كتابه المعتبر أن يرسي دعائم المنهج النقدي والعقلاني، فقد اشتمل الكتاب على عصارة فلسفة وعلم أبي البركات من العلوم المنطقية إلى العلوم الطبيعية، وصولًا إلى علم ما بعد الطبيعة وعلم الإلهي وعلم المنطق، أين احتوى الكتاب على آراء أبي البركات في إشكالية الزمن وإشكالية قدم العالم وحدوثه عند ابن سينا.
نجاحه في الجراحة
خلال القرن الثاني عشر للميلاد انتشرت أوبئة وأمراضٌ كثيرةٌ استعصى على العلماء والأطباء إيجاد دواءٍ لها، ومن بين تلك الأمراض، يروي ابن أبي أصيبعة أنّ رجلًا أتى أبا البركات وقد أصابه الوباء فتمكن الورم من رجله؛ فبادر أبو البركات إلى قطع أصابع الرجل فعاتب تلامذة وأطباء ذلك العصر فعل أبو البركات.
لكن ابن ملكا كرر العمل مع مريضٍ ثان وثالث؛ ولم يردّ على معاتبيه من أهل الاختصاص، بينما استمر تلامذته بالعلاج دون القطع؛ ما جعل الوباء يتفشى حتى اهتدوا إلى علاج أبي البركات بضرورة قطع الرجل لكي لا ينتشر المرض إلى كافة أنحاء الجسم.
أنجز ابن ملكا العديد من المؤلفات في مجال الطب، أبرزها مؤلفه «اختصار التشريح من كلام جالينوس» و«رسالة في العقل وماهيته» و«كتاب النفس».
أخذت شهرة الطبيب أبي البركات في الاتساع، فلما مرض أحد سلاطين السلاجقة، استدعي على عجل من بغداد فوفاه وبرأه.
إضافة إلى تفوقه في الطب، فقد اقتحم علم الحركة مبكرًا وأبدع فيه، حتى أن سائر بصمه جي، يرى في كتابه «تاريخ علم الميكانيك»، بأنّ أبي البركات كان أوّل عالم درس واستفاض في البحث عن معنى «القانون الثاني للحركة».
اكتشف أبو البركات أن «الجسم الذي يفارقه سبب حركته يبقى مستمرًا في حركته التي استفادها من القاسر لولا مقاومة الوسط. ولولا مقاومة طبيعية وأن لا مقاومة في الخلاء، فيبقى الجسم متحركًا إلى الأبد» وهي النظرية التي ناقض بها أبو البركات عالم الفيزياء الشهير أرسطو الذي كان يرى أن الجسم لا يتحرك في الخلاء أصلًا.
و«كل حركةٍ في الزمان لا محالة، فالقوة الأشدّية تحرّك أسرع، وفي زمنٍ أقصر، فكلما اشتدت القوة ازدادت السرعة فقصر الزمان، فإذا لم تنته الشدّة لم تنته السرعة». ونفهم من قول ابن ملكا هذا، أن زيادة السرعة تحدث من زيادة القوة، وهي الانطلاقة التي بدأ منها نيوتن صياغة القانون الثاني للحركة.
أيضا، لاحظ ابن ملكا أنّ لكّل فعلٍ رد فعلٍ، وقد عبّر عن ذلك بمثال الحلقة المتجاذبة بين متصارعين فيقول في كتابه «المعتبر» إن: «الحلقة المتجاذبة بين المصارعين لكلّ واحدٍ من المتجاذبين في جذبها قوة مقاومة لقوّة الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كلّ ذلك الجذب».
ويعد هذا المثال بمثابة التعريف الأوّلي لقانون الحركة الثالث والمشهور بـ«قانون نيوتن» والذي ينص على أن: «لكل فعل رد فعل، يساويه في الشدة، ويعاكسه في الاتجاه»
وعن سبب اختيار ابن ملكا لمثال الحلقة عن مثال شدّ الحبل الذي كان مشتهرًا بين فيزيائيي ذلك العصر يجيب الباحث في الفيزياء، سائر بصمة جي، فيقول أنّ أبو البركات: «أراد تبسيط فكرته من خلال استعانته بفكرة الحلقة التي تعدّ شكلًا هندسيًا ودائريًا له مركزه في وسطه، ويعبّر عن مركز ثقله الخارجي في الوقت نفسه».
في مراجع علم الميكانيكا الحديث يوضع «الشكل الأيمن» ليدل على الفعل وردّ الفعل الذي يحدث بين شخصين يقومان بشدّ الحبل، أمّا الحالة التي تكلّم عنها ابن ملكا البغدادي فهي في «الشكل اليسار» ونلاحظ أنّ شرحه أوضح وأفضل من من الشرح الحديث وذلك عندما اقترح وضع حلقةٍ في المنتصف بين شخصين.
وفاته
في أواخر حياته، أصيب بأمراض غريبة وفشل في علاجها، ويذكر ابن أبي أصيبعة أنّ أبي البركات أصيب بالعمى، ثمّ طرش فبرص وأصابه الجذام، ولمّا أحسّ بدنو أجله أوصى أن يكتب على قبره «هذا قبر أوحد الزمان ذي العبر صاحب المعتبر».
توفي في سنة 1152 ميلادية في همذان (في غرب وسط إيران)، عن نحو الثمانين من العمر. وحمل جثمانه إلى بغداد بأمر الخليفة.