فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

حكاية تأسيس "هوليوود الشرق".. "استوديو مصر" قلعة طلعت حرب التي حولت السينما من مغامرات فردية إلى صناعة وطنية.. وفيلم "وداد" لأم كلثوم بداية الروائع

ستوديو مصر، فيتو
ستوديو مصر، فيتو

لم يكن استوديو مصر مجرد موقع للتصوير السينمائي، بل كان نقطة التحول الكبرى التي نقلت الفن السابع في مصر من مرحلة المحاولات الفردية إلى طور الصناعة الاحترافية المتكاملة، فقد أسسه الاقتصادي الرائد طلعت حرب عام 1935 ليكون "هوليوود الشرق"، وشكل على مدار عقود مدرسة فنية تخرج فيها كبار المخرجين والفنيين، وصنعت داخل بلاتوهاته روائع العصر الذهبي للسينما المصرية، ليظل هذا الصرح شاهدا حيا على ريادة مصر الفنية والثقافية. 

ويعد كتاب "قصة السينما" للكاتب سعد الدين توفيق، الصادر عام 1969، وثيقة هامة ترصد التحولات الجذرية في تاريخ الفن، وتحديدا الدور المحوري الذي لعبه "استوديو مصر" خلال حقبتي الثلاثينيات والأربعينيات، ففي الوقت الذي تراجع فيه إنتاج الأفلام المصرية بين عامي 1936 و1944، برز هذا الصرح كطوق نجاة ومطور حقيقي للصناعة، ليحولها من جهود فردية متناثرة إلى كيان مؤسس للسينما المصرية والعربية.

ستوديو مصر ثورة في الإنتاج السينمائي بالعالم العربي

فقال سعد الدين توفيق في كتابه: قبل ظهور ستوديو مصر، كانت صناعة السينما تعتمد على منتجين أفراد بإمكانيات محدودة، ومخرجين يعملون بنظام القطعة، حيث يظل المخرج لا يعمل بعد إنجاز فيلمه حتى يتعاقد مع منتج آخر، وهو حال طال الفنيين والفنانين كافة، فلا عقود دائمة ولا دخل ثابت.

ومع تأسيس شركة مصر للتمثيل والسينما (ستوديو مصر)، تغير المشهد كليا حيث امتلكت الشركة مصنع ضخم للأستوديو، ومعامل للتحميض وطبع الأفلام وتسجيل الصوت، بالإضافة إلى دار عرض خاصة لأفلامها “سينما ستوديو مصر”، وهي إمكانيات لم تتوافر لأي شركة أخرى آنذاك.

وقد أرسى الاستوديو نظاما يحاكي كبرى شركات هوليوود، حيث أصبح الفنانون والفنيون موظفين بعقود رسمية، يضم الاستوديو نخبة من المخرجين وكتاب السيناريو ومهندسي الديكور والمصورين والمونتيرين، وامتد الأمر للتعاقد مع نجوم التمثيل.

وأتاحت هذه الإمكانيات للمخرجين حرية إبداعية غير مسبوقة، فلم يعد المخرج مضطرا لحذف مشاهد تتطلب ديكورات ضخمة، أو التنازل عن الممثل الأنسب للدور لأسباب مادية، كما توفرت له أعداد الكومبارس المطلوبة لمشاهد المجاميع، ونتج عن هذا المناخ ظهور أفلام ذات مستوى فني رفيع، شكلت ما عرف لاحقا بـ "مدرسة ستوديو مصر".

ومن أبرز إنتاجات تلك المرحلة الذهبية أفلام: "وداد"، "الحل الأخير"، "سلامة في خير"، "شيء من لا شيء"، "لاشين"، "العزيمة"، "الدكتور"، "إلى الأبد"، "سي عمر"، "على مسرح الحياة"، "مصنع الزوجات"، "أخيرًا تزوجت"، "الحياة كفاح"، "قضية اليوم"، "أرض النيل"، "سيف الجلاد"، و"ترام وانتقام".

رؤية طلعت حرب لتأسيس ستوديو مصر وتأثيره على الاقتصاد

لم تكن السينما لتتحول إلى صناعة حقيقية لولا الرؤية الثاقبة للاقتصادي الوطني طلعت حرب، فبعد تأسيسه بنك مصر في 3 أبريل 1920، والشركات التابعة له، أعطي اهتمام خاص للفنون، فأشار الكاتب الصحفي رشاد كامل في كتابه "طلعت حرب ضمير وطن" إلى أن حرب، كان محبا للفن وصديقا لأبرز مثقفي وفناني عصره، مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ويوسف وهبي ونجيب الريحاني.

كما أكد الكاتب الأمريكي إريك ديفيز في كتابه "طلعت حرب وتحدي الاستعمار"، الذي ترجمه هشام سليمان عبد الغفار، أن طلعت حرب آمن بأن النهضة الاقتصادية لا تكتمل دون نهضة ثقافية واجتماعية، ومن هنا جاء تأسيس استوديو مصر كأحد المشروعات الاقتصادية لبنك مصر، ليتم وضع حجر الأساس في 7 مارس 1934، ويبدأ العمل في تشييده في أغسطس من نفس العام، قبل أن يفتتح رسميًا في عام 1935 في حفل مهيب حضره 500 مدعو من كبار رجال الدولة والفن.

وأقيم الاستوديو في منطقة الجيزة بالقرب من الأهرامات على مساحة 17 فدانا، حيث تم تجهيزه بأحدث المعدات المستوردة من شركة "توبيس" العالمية، ليشمل بلاتوهات تصوير، وورش ديكور، ومخازن للملابس، ومعامل طبع وتحميض، وأهدى الرائد السينمائي محمد بيومي عدد من آلات التصوير للاستوديو الذي ضم أيضا أشهر ديكور للحارة المصرية.

لم يكتف طلعت حرب بمبني بل استثمر في البشر كذلك، فأرسل البعثات السينمائية إلى أوروبا منذ عام 1933 لتعلم فنون السينما على أسس علمية، وعقب عودتهم انضم هؤلاء الشباب إلى العمل بجانب خبراء أجانب مثل المخرج الألماني فريتز كرامب، والمصور الروسي سامي بريل، ومن بين الأسماء المصرية التي لمعت في ذلك الوقت نيازي مصطفى، أحمد بدرخان، ولي الدين سامح، مصطفى والي، وجمال مدكور.

وتولى إدارة الاستوديو في بداياته أحمد سالم في يونيو 1935، ثم خلفه حسني نجيب بعد استقالة سالم في مايو 1938.

بصمة استوديو مصر في الإنتاج السينمائي والتوثيقي

كان فيلم "وداد" لكوكب الشرق أم كلثوم أول إنتاج للاستوديو، وقد مثل مصر في مهرجان فينيسيا الدولي عام 1936، ليبدأ عهد جديد للسينما العربية، وتوالت الروائع بعد ذلك مثل "سلامة في خير" لنجيب الريحاني، و"لاشين"، و"العزيمة"، و"السوق السوداء".

كما لعب الاستوديو دورا في اكتشاف المواهب، مثل صلاح أبو سيف الذي بدأ كمساعد للمخرج كمال سليم، ثم ترقى ليصبح رئيسا لقسم المونتاج، قبل أن ينطلق في عالم الإخراج مقدمًا أفلام مثل "دايما في قلبي"، و"الأسطى حسن"، و"الفتوة".

وإلى جانب الأفلام الروائية، أنتج الاستوديو "الجريدة المصرية" السينمائية والتي بدأت من عام 1936، والتي كانت تعرض الأخبار المصورة في دور العرض قبل الأفلام، بالإضافة إلى إنتاج أفلام تسجيلية للترويج للصناعة الوطنية وأنشطة شركات بنك مصر، مثل فيلم عن "الحج" عام 1935.

ستوديو مصر منبع السينما المصري 

ظل استوديو مصر المدرسة السينمائية الوحيدة في الشرق الأوسط حتى إنشاء المعهد العالي للسينما في القاهرة عام 1959، ومع صدور قرارات التأميم عام 1961، ذهبت ملكيته للدولة ضمن القطاع العام، لكنه استمر في دوره كقلعة للإبداع.

وشهدت بلاتوهات الاستوديو تصوير أفلام هامة، مثل "ميرامار"، "فجر الإسلام"، "حمام الملاطيلي"، ورائعة شادي عبد السلام "المومياء"، بالإضافة لدوره المستمر حتي الآن، حيث استقبل الاستوديو تصوير أعمال حديثة مثل "البحر بيضحك ليه"، "امرأة هزت عرش مصر"، "الناظر"، "حريم كريم"، و"دم الغزال".

واستمر استوديو مصر في استقبال أعظم أعمال السينما والدراما المصرية حتي اليوم مع الحريق الذي حدث في ديكور مسلسل “الكينج” من بطولة محمد إمام.