فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

التعهيد.. حكاية نجاح من سنين!

حققت مصر بين عامي 2000 و2011 واحدة من أنجح قصصها في عالم التكنولوجيا الحديثة، حين شقّت طريقها بثبات في صناعة التعهيد، تلك الصناعة التي تمزج بين المعرفة التقنية والخدمة العابرة للحدود. 

كانت البداية في عهد الدكتور أحمد نظيف وزير الاتصالات الأسبق (ومن بعدها رئيس وزراء مصر)، الذي وضع مع فريقه لبنات خطة تنمية معلوماتية طموحة امتدت بين عامي 2000 و2005، ثم تولى بعده المهندس النابه طارق كامل مهمة البناء والتوسع، فحوّل الرؤية إلى واقع ملموس.


في تلك السنوات، كانت مصر تكتب اسمها لأول مرة على الخريطة العالمية لصناعة التعهيد. فبعد أن غابت عن مؤشر AT Kearney Global Services Location Index في مطلع الألفية، قفزت عام 2007 إلى المركز السادس عشر، ثم واصلت الصعود حتى بلغت المركز السابع عالميًا عام 2011.


كانت تلك المرحلة بمثابة العصر الذهبي للقطاع، حيث مراكز اتصال عالمية تُفتتح، واستثمارات أجنبية تتدفق، وكفاءات شابة تتدرب لتنافس بلغات متعددة من القاهرة إلى الإسكندرية.


لكن ما تحقق وقتها لم يكن مجرد أرقام في تقرير دولي، بل نتيجة تخطيط طويل النفس، ورؤية متكاملة ربطت التعليم بسوق العمل، والتقنية بالاقتصاد، والطموح بالممكن. كانت مصر تُدار بعقل يعرف أن التحول الرقمي لا يصنع في المؤتمرات، بل في المعامل والفصول ومراكز التدريب.


ثم جاء العقد التالي محمّلًا بالتحولات والتحديات؛ فتراجع ترتيب مصر إلى مراكز أقل -الثالث عشر ثم الخامس عشر بين عامي 2014 و2017- قبل أن تعود إلى التحسن التدريجي وصولًا إلى المركز الثامن عام 2023. تحسنٌ محمود بلا شك، لكنه لا ينسينا ما بلغته البلاد من ذروة مجدها في تلك الصناعة عام 2011.

وهنا تطرح الأرقام سؤالها بصوتٍ عالٍ: هل نقرأ نحن -في المؤسسات الرسمية- هذه البيانات قبل أن نخاطب بها العالم؟ هل تتحقق أجهزة الدولة من تاريخ كل صناعة قبل عرض رؤيتها للمستثمرين الأجانب؟ وهل تُبنى خطط المستقبل على ذاكرة دقيقة تحفظ ما تحقق وتتعلم مما سبق؟

إن صناعة التعهيد ليست مشروعًا طارئًا، بل مسيرة وطنية بدأت منذ ربع قرن، تستحق أن تُروى كما كانت، بأسماء من أسسوها ورؤية من صاغوها. 

وإن إنصاف التاريخ لا يقل أهمية عن التخطيط للمستقبل، لأن الأمم التي تمحو ذاكرتها التقنية تفقد قدرتها على البناء فوقها. في النهاية، لا نحتاج إلى إعادة اختراع العجلة، بل إلى قراءةٍ واعيةٍ لما أنجزناه، وتحليلٍ علميٍ لما تعثرنا فيه، واستراتيجيةٍ جديدةٍ تحترم الأرقام قبل أن ترفع الشعارات.