بحار من الثروة.. ومستنقعات من الفقر
كيف يمكن لبلادٍ عربية تمتلك واحدة من أغنى الجغرافيات في العالم أن تعاني الفقر والبطالة وتراجع معدلات التنمية؟ كيف تطفو على بحارٍ من النفط والغاز، وتحتضن في باطنها مناجم الذهب والفوسفات والحديد، ومع ذلك تئنّ شعوبها تحت وطأة التخلف والفقر مقارنة بإنسان الغرب؟
كيف ورثت هذه الأمة أقدم الحضارات، وأثراها موقعًا وموارد، ثم وجدت نفسها في ذيل مؤشرات الإنتاج والشفافية والتعليم؟ السؤال لا يخصّ بلدًا بعينه، بل هو سؤال يطوف بالعالم العربي من الخليج إلى المحيط..
منطقة تزخر بالثروات الطبيعية، لكنها تعاني تناقضًا صارخًا بين وفرة الموارد وندرة التنمية.. بين عائدات النفط والغاز التي تتدفق كالشلالات، وأوضاع معيشية لا تليق بثروة بهذا الحجم.. الجواب ليس في الأرض بل فيمن يديرها.
فالثروة وحدها لا تصنع التنمية، بل قد تكون لعنة إن لم تصحبها منظومة حكم رشيدة ومؤسسات قوية تضع الكفاءة فوق الولاء، والتخطيط فوق الارتجال.. لقد علمتنا التجارب أن الموارد الطبيعية قد تُغني الأفراد لكنها لا تُنهض الأمم ما لم تُستثمر في الإنسان أولًا.
انظر إلى اليابان.. بلد بلا نفط ولا غاز، خرج من الحرب العالمية الثانية مدمَّرًا، لكنه امتلك قيادة عرفت أن المورد الحقيقي هو الإنسان، فاستثمرت في التعليم والبحث والانضباط والإنتاج.
وانظر إلى كوريا الجنوبية، التي كانت في خمسينيات القرن الماضي أفقر من بعض الدول العربية، واليوم تُعدّ من كبرى القوى الصناعية والتكنولوجية بفضل التخطيط طويل المدى والاستثمار في الكفاءات.
وسنغافورة، تلك الجزيرة الصغيرة التي لا تمتلك موردًا طبيعيًا واحدًا، تحولت إلى مركز مالي عالمي بفضل الحوكمة الرشيدة والانضباط المؤسسي ومكافحة الفساد.
في المقابل، تتعرض دولنا الغنية بالموارد لظاهرة لعنة الثروة، حيث تُغري الوفرة بالكسل الاقتصادي، ويحلّ الريع محلّ الإنتاج، فتتراجع قيمة العمل ويعلو صوت الاستهلاك على حساب التنمية.
تتضاعف الأزمات حين تتسرب العوائد إلى جيوب المنتفعين، بينما يغيب الاستثمار الحقيقي في التعليم والصحة والبنية التحتية، فتظلّ الثروة أسيرة أرقامٍ في الموازنات لا تترجم إلى نهضة حقيقية.
إن النهضة لا تُستورد، ولا تُبنى على العائدات السهلة، بل على الإنسان المنتج، والمؤسسة ذات الكفاءة، والشفافية التي تحاسب الجميع دون استثناء.. فحين تُستثمر الثروات في بناء الإنسان لا في شراء الولاءات، وحين يُدار الاقتصاد بعقل لا بعاطفة، والسياسة بمسؤولية لا بشعارات، عندها فقط يمكن أن نكسر هذه المفارقة التاريخية التي جعلتنا أغنياء الأرض وفقراء الواقع.
لقد آن الأوان أن ندرك أن النفط والغاز لن ينهضا بنا ما لم ننهض بأنفسنا، وأن الثروة ليست ما نملك، بل ما نحسن إدارته، فمن لا يُحسن استثمار ما بين يديه، سيبقى يطوف على بحارٍ من الذهب.. ويغرق في قطراتٍ من الفقر.