حديث قلب
سوزان بريسو.. حب أضاء ظلمة طه حسين!
هي زوجة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وحبه الأول والأخير، ورفيقة حياته التي صحبته على مدى ستين عاما تقريبا.. وكلما قرأت تاريخها وسيرتها رفعت لها القبعة احتراما وتقديرا؛ فقد كانت فيها عينه المبصرة، وهذا الوصف الدقيق ليس من عندي، فقد قال عنها زوجها بالنص: "المرأة التي أبصرت بعينيها"!
علاقة حبهما يجب أن تكون درسا للجيل الحالي الذي يتسابق على الماديات ويضع شروطا قاسية لإتمام الزواج، ويغفل الحب والهيام والعواطف التي هي أثمن من قيمة المهور والذهب والماس والسيارات الفارهة والبيوت الفسيحة الفاخرة!
قصة حب سوزان بريسو تجاوزت حدود الدين والجغرافيا والثقافة، نسج خيوطها شاب مصري كفيف فقير، وشابة فرنسية مسيحية تمردت على القيود البالية، فأبصرت بقلبها ما لم تبصره العيون!
كلما أعدت قراءة قصة حبهما الفريد، أدركت أن بطلتها الأولى قبل طه حسين هي سوزان، ورفعت لها القبعة، فقد أثبتت أن الحب النقي لا يحتاج إلى حاسة البصر، بقدر ما يحتاج إلى تضحية وجرأة وعزيمة قوية لاتخاذ القرار الصحيح، فلا أدري ما هو مستقبل طه حسين مهما أوتي من العلم، لو تزوج بغير سوزان بريسو؟!
يحفل التاريخ بنماذج نسائية ملهمة لزوجات كن خير سند ودعم لأزواجهن، وسوزان بريسو نموذج من تلك النساء، وهي التي تكبدت معاناة حقيقية خلال دعمها لزوجها الكفيف، الذي لم يكن إلا الأديب المصري الشهير طه حسين، والذى أصبح فيما بعد أحد أبرز الأدباء والكتاب ليس في العالم العربي بل العالم أجمع.
ولدت سوزان بريسو عام 1895م، ونشأت في أسرة كاثوليكية، وكان أول لقاء لها بطه حسين يعود لتاريخ 12 مايو 1915 في مونبيليه بفرنسا، عندما كان طه حسين ضمن البعثة المصرية التي تتابع دراساتها العليا بفرنسا، ومنذ ذلك التاريخ تكررت لقاءاتهما خصوصا أنها قبلت العمل كمساعدة له على المذاكرة ومطالعة الكتب لأنه كفيف، قبل أن تتطور علاقتهما ويعترف لها طه حسين بحبه ورغبته بالزواج منها.
ورغم رفض أسرة سوزان ارتباط ابنتهم بطه حسين بحكم اختلاف الديانة واختلاف البلد الذي ينتميان إليه بجانب أنه كفيف، إلا أنها أصرت على الزواج به، وهو ما تحقق سنة 1917، لتبدأ قصة حب بينهما امتدت لما يزيد عن 60 سنة.
وطيلة حياتهما، شكلت سوزان الداعم الأول للأديب العالمي طه حسين، أحبته من قلبها، وكرست حياتها من أجل خدمته، ورافقته في كل سفرياته، وساندته في الكثير من المحن والصعوبات التي واجهها خصوصا في فترة الثلاثينيات، كما كانت سوزان العين التي يرى بها طيلة حياته. لذلك قال عنها طه حسين: "ما بيننا يفوق الحب، وبدونك أشعر أنني أعمى حقًا".
وكان الفضل الأكبر في اهتمام طه حسين بالأدب الفرنسي وفي امتلاكه ناصية اللغات الأجنبية وكذا حصوله على الدكتوراه يعود بالدرجة الأولى لزوجته سوزان أو أستاذته كما وصفها في كتابه "الأيام".
يقول عنها طه حسين: "أنا مدين لها أن تعلمت الفرنسية، وأن عمقت معرفتي بالأدب الفرنسي، وأنا مدين لها أن تعلمت اللاتينية ونجحت في نيل إجازة الآداب، وأنا مدين لها أخيرًا أن تعلمت اليونانية واستطعت أن أقرأ أفلاطون في نصوصه الأصلية".
في كتابها الشهير "معك" والذي ألفته سوزان مباشرة بعد وفاة طه حسين سنة 1975، تحكي سوزان عن علاقتهما الاستثنائية، وكيف تحدت أسرتها من أجل الزواج برجل كفيف مختلف عنها ديانة ولغة، وكيف تحدت العالم أجمع من أجل مساندة زوجها الذي أصبح بفضلها وبفضل جهده الذي كرسه للبحث والتأليف، أحد أبرز أعلام الثقافة والأدب في العالم.
بعد 16 عامًا من وفاة عميد الأدب العربي، رحلت صديقته وزوجته وشريكة مشواره سوزان بريسو عن عمر ناهز 94 عاما.