الحياة السياسية في غرف الإنعاش
كان مشهد اجتماعات الأحزاب الرئيسية لخلق تحالف انتخابي وتوزيع المقاعد بينهم ثم الإعلان عنها، والتسريبات واحتفالات البعض وغضب البعض من المستبعدين موحيا وذا دلالة، حيث بدا وكأن هناك توزيع للمقاعد بغض النظر عن إرادة الناخبين، ثم الإعلان عن ترك 40 مقعدا للتنافس عليها رسالة لكل من يهمه تطوير الحياة السياسية في هذا البلد..
وحتى الذين اجتمعوا وقرروا يعانون من أكثر من مشكلة حيوية، أهمها أنهم غير معروفين لدى الرأي العام، والمعروف منهم محصور في نطاق الشِلل السياسية، التي لا تكاد ترجح كفة أي مرشح في انتخابات..
بشكل عام غابت السياسة وتراجعت الأحزاب، فدخل الإعلام والسوشيال ميديا ليخلقا حالة من السياسة الافتراضية النظرية، بينما الأحزاب القديمة مثل الوفد والتجمع والناصري وباقى التنويعات، تبدو كأنها ماتت مع الحزب الوطني المنحل، بينما الأحزاب التى ولدت وترعرعت بعد 25 يناير، لا تزال عاجزة عن احتلال الفراغ الذى تركه الحزب الوطني..
مع العلم أن الأحزاب المسجلة في قوائم الأحزاب تتجاوز المائة حزب، بينما حجم العضوية في هذه الأحزاب لا يتجاوز عدة آلاف على أقصى تقدير، في مجتمع تعداده أكثر من مائة مليون مواطن.. إذ تشهد مصر حالة سياسية نادرة، إذ فيها أكثر من مائة حزب معترف به، ولا توجد فيها حياة سياسية.
وفيها انتخابات برلمانية وآخر للشورى، مع ذلك فلا توجد أي مشاركة سياسية ولا تداول للسلطة ولا مساءلة للحكومة. والأحزاب لا تنشأ إلا بموافقات بالدرجة الأولى، ومن ثم فإنها تكتسب شرعيتها من تلك الموافقة وليس من التأييد الشعبي لها..
الأمر الذي وضعنا بإزاء هرم مقلوب، السلطة فيه هي التي تشكل الأحزاب، وليست الأحزاب هي التي تشكل السلطة، إذ تم اختطافها وإقصاء الجمهور منه عبر إضعاف وتصفية خلاياه الحية واحدة تلو الأخرى..
في حين تحول الوطن إلى وقف سُلمت مقاليده إلى فئة بذاتها، أدارته وتوارثته جيلا بعد جيل.. مما أدي إلى موت الحياة السياسية، وفقد الناس الثقة في أنفسهم ورموزهم وطريقة التفكير في موضوعاتهم، في وقت يشهد الإقليم والعالم والمجتمع تطورات يحكمها منطق عدم اليقين، بما يستدعي تحقيق حد أدنى من التوافقات، وتطوير خطابات، وسياسات جديدة للتعامل معها.
والأمر هكذا فهناك حاجة ماسة لإعمال نظام القوائم النسبية (حزبية أو غير حزبية) في الانتخابات البرلمانية، أو على الأقل الجمع بين القائمة النسبية والأسلوب الفردي، فنظام القائمة النسبية سيشجع المواطنين على الانخراط في الأحزاب السياسية.
صحيح قد يقول قائل إن الأحزاب غير موجودة في الشارع، فكيف لهذا النظام أن يكون فاعلًا، لكن الرد على تلك المقولة التي تتردد منذ عقود، هو أننا لو بدأنا في إعمال تلك الوسيلة لكانت الأحزاب قد قويت اليوم.
وقد يقول قائل أيضًا: إن معظم النظم الانتخابية في البلدان المتمدنة نظم أغلبية وتتبع الأسلوب الفردي، وهذا القول صحيح لكن يرد عليه بأن اتباع هذه الوسيلة جاء بعد أن اتبع الغرب نظمًا انتخابية نسبية عاشتها تلك البلدان لعقود، حتى انغمس المواطن في الأحزاب، واليوم فإنه في نظم الأغلبية في تلك البلدان، ورغم الانتخابات الفردية، فإن الأحزاب هي التي تتصدر المشهد وليس الأفراد.
ويرتبط بالأمر السابق وجود برلمان ينفذ كل ما يطلب منه من سياسات تشريعية، ويبقى أعرج رقابيًا، وذلك نتيجة الأغلبية المصطنعة التي خلفتها الانتخابات التي فصلتها تفصيلًا القوائم المطلقة، بل إن كثيرًا من السياسات المهمة والمؤثرة في المواطن تتم دون أي تدخل منه.
وإذا جاز لنا أن نشبه المجتمع بالبشر، فإن الجماهير هي الجسم بكل مكوناته، أما القوى الحية والنخبة السياسية فتشكل الرأس لذلك الجسم. ولا يستطيع الجسم أن يتحرك دون توجيه من الرأس الذي يحتوي على المخ.
وهكذا فنحن نظلم الناس ونحملهم أكثر مما يحتملون حين نتهمهم بالتقاعس عن القيام بواجب هو من مسؤولية الأحزاب السياسية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني.. وإذا ما حدث ذلك التقاعس فعلينا أن نتساءل أولا عن وضع الرأس، قبل أن نحاكم استجابات الجسم.