متى نرى بليغ حمدي جديدًا؟!
لماذا لا نرى في سماء الفن المصري اليوم بليغًا جديدًا أو حليمًا آخر أو أم كلثوم ثانية؟ أهو جفاف في نهر الإبداع، أم ضمور في المواهب، أم تغيّر في الذائقة حتى صارت لا تعترف إلا بما يعلو سريعًا ويخفت أسرع؟
الحقيقة أن المبدعين لا ينقطعون، فكل زمان يُنبت طاقات خلاّقة قادرة على صياغة وجدان أمة، لكن الفارق يكمن في البيئة الحاضنة.. في زمن الكبار، كانت هناك طبقة وسطى متينة تتذوق الفن وتمنحه مكانته، مؤسسات إعلامية وموسيقية تقيم ميزانًا صارمًا للجودة، وجمهور يعرف أن يميّز بين الأغنية الخالدة واللحن العابر.
ومع تآكل الطبقة الوسطى تحت ضغط الاقتصاد وتراجع التعليم والثقافة، انحسر جمهور الفن الراقي وصعدت إلى السطح أذواق خفيفة تبحث عن الإيقاع السريع أكثر مما تبحث عن الكلمة والمعنى.
لم ينضب نبع الموهبة، لكنه صار يتدفق في صحراء قاحلة بلا مؤسسات ترعاه. كثير من الأصوات الواعدة والشعراء المبدعين والملحنين الموهوبين يذوبون في الزحام، بينما يسطع من يملك المال أو القدرة على صناعة الضجيج.
هكذا وجدت ظواهر مثل مغني المهرجانات طريقها إلى فئات مهمّشة تبحث عن متنفس بسيط يعبّر عن واقعها، بينما بقي الفن الأصيل بلا حاضنة تحميه وتقدّمه للأمة.
ثم جاءت العولمة لتزيد المشهد تعقيدًا؛ لم يعد المصري محكومًا براديو القاهرة أو شاشة التلفزيون الرسمي، بل صار يعيش في بحر مفتوح من المنصات الرقمية. وهنا أصبحت المنافسة عالمية، ولم يعد أمام الفنان الوقت الكافي ليبني مجده حجرًا فوق حجر، كما فعلت أم كلثوم أو عبدالحليم، بل صار مضطرًا إلى اقتناص اللحظة وصناعة الترند.
إذن، غياب الرموز ليس فقرًا في الإبداع، بل أزمة في المجتمع ذاته: في طبقته الوسطى، في مؤسساته، في ذائقته. الإبداع موجود، لكنه يحتاج إلى أرض خصبة تُنبت منه قممًا جديدة، وإلى وعي جماعي يعيد الاعتبار للفن بوصفه أداة للبناء والسمو، لا مجرد سلعة للترفيه السريع.
ربما لن يجيء بليغ أو حليم أو كوكب الشرق آخرون بالصيغة ذاتها، لكن إذا نهضت البيئة الحاضنة وعاد للذوق العام احترامه، فقد نشهد ميلاد رموز جدد يكتبون بأصواتهم وألحانهم فصولًا جديدة في كتاب الإبداع المصري.. وأخيرًا لا تقل لي هناك عمرو دياب وتامر حسني وأنغام وشيرين.. نعم هؤلاء لهم جمهورهم ولكن أثرهم لن يعيش طويلا.