فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

هذا ما يصنع الفارق مع الشعوب!

في عصر السوشيال ميديا سرقت الصورة والفيديو البساط من تحت أقدام الكلمة المكتوبة، تراجع الكتاب المطبوع لحساب الإبهار البصري فلم تعد القراءة رفاهية عقلية، ولا عادة نخبوية يمارسها من فرّغوا أوقاتهم، بل هي فعل تحوّلي عميق يُصيب الإنسان في جوهره، ويصيب الشعوب في مصيرها.

أمة تقرأ، أمة تملك زمام وعيها، وتُعيد تشكيل مصائرها بوعي لا ينكسر، وعقل لا يُخدع، وبصيرة لا تنطفئ. إن القراءة، في جوهرها، ليست جمعًا للكلمات في الذاكرة، بل بناء للإنسان من الداخل، وتشييد لأسوار الوعي حول العقول كي لا تُقتاد كما تُقاد القطعان.

الشعوب التي تقرأ تعرف من هي، تعرف كيف تؤدي دورها ببراعة، فلا يخدعها أحد، وكيف تكتب حاضرها بيدها لا بأيدي الوصاة عليها. تقرأ فتتذكّر، فتفهم، فتنهض. وكل من أراد لأمة أن تظلّ في الحضيض، جرّدها من الكتب، وصادر منها القدرة على السؤال، وزرع فيها الاكتفاء بالسطور الأولى.

إن أخطر ما قد يُصيب أمة هو أن تنسى كيف تسأل، وكيف تُراجع، وكيف تُفكّر، والقراءة هي الفعل الأول في هذا الطريق؛ لأنها تحرّض الإنسان على كسر الأصنام التي نصبتها الخطابات المزيّفة، وتكشف له كيف تُصاغ الأكاذيب بحروفٍ من ذهب، وتُباع له كحقائق مقدسة.

ما من استعمار خبيث، أو طغيان باطش، إلا وكان أول ما يخشاه هو القارئ، لأن القارئ مبدع ومبتكر لا يُخدع بسهولة، ولا يسير في القطيع وهو يعلم أنه قطيع. القارئ ليس تابعًا، بل شريك في الصياغة، فكرًا وقرارًا ومصيرًا. 

ولهذا، كانت القراءة دومًا أول خطوط المقاومة، والممر الآمن نحو التحرر، لا من الاستعمار الخارجي فحسب، بل من التشويه والتشكيك والشائعات، من الخضوع الطوعي، من الجهل الذي يُزيَّن حتى يبدو حكمة، ومن التلقين الذي يتخفّى في ثوب التعليم.

أمةٌ تقرأ، أمةٌ تقرر. تقرر أن تنهض، أن تُنقّح ذاتها من التبعية، أن تمارس التفكير لا التكرار، أن تُنشئ أبناءها على السؤال لا على التلقّي، أن تُدرك أن النهوض ليس بيانًا يُلقى من منصّة، بل مشروع يبدأ من عقل الإنسان، والقراءة أول سُطور هذا المشروع.

لهذا، لا غرابة أن تُحارب القراءة في أماكن كثيرة، لا بنزع الكتب من الأيدي فحسب، بل بصناعة نفورٍ منها في النفوس، لأن شعبًا لا يقرأ، هو شعب يمكن قيادته بأيّ شعار، وتوجيهه بأيّ موجة، وتسويقه لأيّ وهم. أما حين يقرأ، فإنه لا يبتلع الكذب دون مساءلة، ولا يصفّق دون وعي، ولا يسير وراء أحد إلا وقد عرف إلى أين يُساق، ولماذا.

إن الفارق الجوهري بين أمة تسود، وأخرى تُقاد، هو أن الأولى قرأت، فعرفت، فاختارت، أما الثانية فقد تُركت لعناوين زائفة، وأصواتٍ عالية، وأهواء تتبدل مع كل ريح. فالقراءة ليست فقط مفتاح العلم، بل هي بوابة التحرر، ولا حرية لأمة لم تتحرر عقولها أولًا، ولا كرامة لجماعةٍ أغلقت على نفسها أبواب المعرفة، وظنّت أن الزمن ينتظرها حتى تُدركه.

اقرأ، ليس لتُقال عنك مثقفًا، بل لأن القراءة فعل بقاء، ولأن الشعوب التي لا تقرأ، تُمحى، أو تُدار كما تُدار آلات معطلة، بلا وعي، بلا إرادة، وبلا مستقبل.