حكايتي مع الوزير المحبوب (1)
من النادر أن يحب الناس وزراءهم، فثمة ميراث من الجفوة والفصام بين الشعب وحكوماته المتعاقبة منذ عهد المماليك والأغوات والأتراك، حتى تجذر في الوجدان الشعبي مقولة "آخر خدمة الغز علقة"، وهى مقولة تجسد البعد والشقاق والتنافر والريبة بين الشعب وحكامه منذ أمد بعيد..
لكن هذه القاعدة نجح الوزير الراحل دكتور على المصيلحي في كسرها، وإثبات عكسها فقد أحبه الناس حتى توجوه بلقب وزير الغلابة.. والسؤال: هل يحب الناس الوزراء.. والأهم: كم وزيرًا في حكومة الدكتور مدبولي يعرف الناس اسمه، وكم وزيرًا يملك رصيدًا من المحبة في قلوب الناس.. وما دلالة هذا العزوف عن الوزراء!
مناسبة السؤال هى رحيل الوزير الدكتور على المصيلحي الذي أحبه الناس وزيرا ونائبا برلمانيا خدوما لأهل دائرته، حتى ترك ميراثا من الحب والتقدير يصعب تجاهله كما ترك بصمة سياسية قوية عنوانها ببساطة (الوزير السياسي أحب إلى الناس من البيروقراطي)..
الدكتور علي المصيلحي، تميز بحس سياسي عالٍ وقدرة على قراءة الواقع المصري بتعقيداته الاجتماعية والاقتصادية، لم يكن مجرد مسئول يدير ملفات وزارية، بل كان رجل دولة يفهم نبض الشارع ويتعامل مع المواطن البسيط بقدرٍ عالٍ من الإنسانية والتعاطف.
قراراته خلال الأزمات، خاصة في فترات التضخم ونقص السلع، عكست إدراكًا عميقًا لاحتياجات الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، مما أكسبه احترام المواطنين ومحبتهم، وخلّد اسمه كواحد من المسئولين الذين جمعوا بين الكفاءة والضمير الوطني.
عرفت الدكتور على المصيلحي، وزير التموين السابق، رحمه الله.، والذي رحل عنا منذ أيام بعد رحلة نجاح سياسي وبرلماني مشهودة وصراع مرير مع المرض اللعين ليقدم نموذجا متفردا في العطاء الوطنى.
عرفته منذ فترة بعيدة، قبل أن ينخرط في العمل السياسي، وزيرا لأكثر من حقيبة، ويثبت فيها كلها نجاحا منقطع النظير، تواصلت علاقتنا دون انقطاع منذ كان مستشارا أول لوزير الاتصالات آنذاك الدكتور أحمد نظيف، وكان يجاوره في الوزارة مكتب وزير الاتصالات الأسبق الدكتور طارق كامل رحمه الله رحمة واسعة، كمستشار أيضا في ذلك الوقت.
كان الدكتور المصيلحي رجلا واسع الأفق، وسياسيا من طراز فريد أثبت كفاءة وجدارة في كل موقع تولاه، تفوق في دراسته، وكان من أوائل الثانوية العامة، ثم التحق بالكلية الفنية العسكرية حتى تخرج فيها عام 1971 بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف في مجال الهندسة الإلكترونية، ثم حصل على الدكتوراة في استخدام الحاسبات في تصميم الدوائر المصغرة، وانخرط في العمل المدني والسياسي، وتدرج في المناصب الحكومية حتى استقر في منصب وزير التموين.
دلائل النجاح والتميز كثيرة في حياة الوزير على المصيلحي، فقد نجح بعد اختياره رئيسا لهيئة البريد في عهد الرئيس مبارك في إحداث نقلة نوعية بهذا المرفق الحيوي شكلا ومضمونا، إذ وضع خطة قوية لإصلاحه وتوسيع أدواره وخدماته، وقدم دراسة وافية بالتعديلات التشريعية ومتطلبات البنية التحتية المطلوبة وضرورة إدخال الميكنة والصرف الإلكتروني وإعادة الهيكلة وتطوير الخدمات القائمة..
حتى صارت مكاتب البريد على مستوى الجمهورية تقدم خدمات عصرية ومصرفية تضاهي البنوك، خدمات جديدة كانت نواة حقيقية للمنافسة والانطلاق على طريق العالمية بما تقدمه من خدمات حكومية الرقمية والبريدية والتجارة الإلكترونية وخدمات الشمول المالي، وتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر.. حتى صارت الهيئة يشار لها بالبنان.
وأذكر أنه في تلك الفترة أسر إلى برغبته في الترشح للبرلمان عن دائرة أبو كبير بالشرقية لخدمة أهلها، فشجعته ونشرت له حديثا مطولا بجريدة الجمهورية وقتها، وتضمن ذلك الحوار فقرة أعلن فيها عن نيته الترشح لانتخابات النواب ورؤيته ومستهدفاته من هذا الترشح، وبعد صدور الجريدة طلب مني شراء 6 آلاف نسخة لتوزيعها على أهالي دائرته، وقد تحقق مراده وفاز باكتساح وصار نائبا للشعب ثم تربع على عرش القلوب، نائبًا ووزيرًا محبوبًا.. رحمه الله رحمة واسعة.