من قصص القرآن الكريم، سيدنا شعيب وقصته مع أصحاب "الأيكة"
في هذه السلسلة نستعرض مشاهد من القصص التي وردت في كتاب الله العزيز، القرآن الكريم، علنَّا نستخلص منها العبر والدروس التي تفيدنا في الدنيا، بتغيير سلوكياتنا إلى الأفضل، فنستزيد من الأفعال الطيبة، والتصرفات الراقية، ونتعامل بالحسنى مع الآخرين، فنفوز ونسعد في الآخرة.
سيدنا شعيب، نبي قوم مدين الذين أهلكهم الله بالحر الشديد
ذكره الله تعالى في سورة "الأعراف": "وإلى مدين أخاهم شعيبا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...".
وفي سورة "هود": "وإلى مدين أخاهم شعيبا، قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان، إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين".
وفي سورة "الحجر": "وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين، فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين".
وفي سورة "الشعراء": "كذب أصحاب الأيكة المرسلين، إذا قال لهم شعيب ألا تتقون".
ذكر ابن إسحاق أن سيدنا شعيب هو ابن ميكيل بن يشجن.
وكان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم "مدين" القريبة من أرض معان من أطراف الشام، مما يلي ناحية الحجاز، قريبا من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بفترة قصيرة. وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل.
وكان سيدنا شعيب ممن آمن بإبراهيم، وهاجر معه، ودخل معه دمشق، فزوجه ابنة لوط عليه السلام.
ويروى أن شعيبا كان صهر سيدنا موسى. وكان بعض السلف يسميه "خطيب الأنبياء"، لفصاحته وجمال عباراته، وبلاغته في دعوة قومه إلى الإيمان برسالته.
وعن ابن عباس، قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا ذكر شعيبا قال: "ذاك خطيب الأنبياء".
وكان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل ويخيفون المارة، ويعبدون "الأيكة"، وهي شجرة من الأيك حولها غيضة (شجر كثير ملتفّ).
وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهيما، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص.
فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو نبي الله شعيب، عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من بخس الناس أشياءهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم، حتى أحل الله بهم البأس الشديد.
جرائم قوم مدين
وعن ابن عباس، قال: "كانوا قوما طغاة يجلسون على الطريق، يبخسون الناس، يعني (يعشرونهم، يأخذون من أتاوات)، وكانوا أول من سن ذلك.
"وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا" (الأعراف: 86)، نهاهم الله عن قطع الطريق الحسية الدنيوية، والمعنوية الدينية.
"واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين" (الأعراف: 86)، ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد قلة.وحذرهم من نقمة اللهم بهم إن خالفوا ما أرشدهم إلهي ودلهم عليه.
ولا تصروا على ما أنتم عليه، وتستمروا فيه فيمحق الله بركة ما في أيديكم، وسفقركم ويذهب ما به يغنيكم.
وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة، ومن جُمِع له هذا وهذا، فقد باء بالخسران المبين.
فنهاهم أولا عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف، وحذرهم من سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في أخراهم، وعنفهم أشد تعنيف.
شعيب لا ييأس من النصيحة
ثم قال لهم آمرا: "ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تغثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ" (هود: 84).
وقال ابن عباس والحسن البصر: "بقية الله خير لكم"، أي رزق الله خيرٌ لكم من أخذ أموال الناس، وقال ابن جرير: ما يفضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان، خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف، قال: وقد رُوي هذا عن ابن عباس.
القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام، فإن الحلال مباركٌ وإن قل، والحرام ممحوق وإن كثُر، كما قال تعلى: "يمحق الله الربا ويربى الصدقات" (البقرة: 276).
"قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، إنك لأنت الحليم الرشيد" (هود: 87).
قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم، قال ابن عباس، وغيره: يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.
"ومع ذلك فقد تلطف معهم في العبارة، ودعا إلى الحق بإشارة واضحة: "قال يا قوم أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيق إلا بالله، عليه توكلتُ وإليه أنيب" (هود: 88).
ثم انتقل إلى نوع من الترهيب، فقال: "ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح، وما قوم لوط منكم ببعيد" (هود: 89).
شعيب يحذر قومه
استمر شعيب عليه السلام في تحذيرهم من الكفر، ومخالفة ما جاء به، لان ذلك يعرضهم لسخط الله وغضبه كما حدث مع الأقوام السابقين، ثم سلك شعيب طريقا آخر غير طريق التهديد والتخويف من عذاب الله، وهو طريق النصح والترغيب في ثواب الله عز وجل، وأنه سوف يغفر لهم، فقال لهم: "واستغفروا ربكم ثم ثوبوا اليه إن ربي رحيم ودود".
وكما حدث مع كثير من الأنبياء، فلم يؤمن مع شعيب، إلا نفر قليل من قومه، وكان المشركون يمنعون الناس من الوصول إليه، عليه السلام، ليمنعوا الناس ويهددوهم، فقال لهم شعيب عليه السلام: "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا".
وذات يوم، ذهب شعيب إلى قومه وظل يدعوهم إلى عبادة الله ولكنهم قالوا له: يا شعيب نحن لا نفهم ما تقول، وما أنت إلا رجل ضعيف ولولا قومك لرجمناك بالحجارة، فقال لهم: وهل قومي وقرابتي أعز عليكم من الله ومما أدعوكم اليه ؟!، إن الله عليم بما تفعلون وسوف يعاقبكم على أفعالكم.
تجمع المشركون وقالوا لشعيب والذين آمنوا معه: لنخرجنكم من قريتنا أو تعودون الى ديننا ودين آبائنا، فرد عليهم المؤمنون: لن نرجع الى دينكم بعد أن نجانا الله منه، ثم توجه شعيب، عليه السلام، والذين آمنوا معه، الى الله عز وجل بالدعاء أن ينصرهم على القوم الكافرين وقالوا: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين".
عقاب الكافرين بالحر الشديد
ولما استمر أهل مدين في كفرهم وعنادهم الشديد، أرسل الله عليهم حرا شديدا، وأسكن الريح والهواء عنهم، فلم يفلح مع هذا الحر ظل ولا ماء، فإذا اختبؤوا في البيوت وجدوها أشد حرا من الخارج، وإذا دخلوا في السراديب ليحتموا من الحر، وجدوها أشد حر وظل ذلك سبعة أيام كاملة، فلما يئسوا من الحر هربوا إلى خارج القرية في الصحراء فجاءت سحابة عظيمة، فتجمعوا تحتها وشعروا بالنسيم البارد، فلما تجمعوا كلهم تحتها انفجرت بالبرق والرعد وزلزلت الأرض من تحت أقدامهم فأهلكهم الله عزوجل، ونجا الله شعيبا والذين آمنوا معه.