فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

كولين هوفر تقرأ مستقبل داليدا «بتوقيت 2028»

شاهدت أمس الحلقة الأولى من حكاية «بتوقيت 2028»، وهي الحكاية الثانية ضمن مسلسل «ما تراه ليس كما يبدو»، والذي يقدم صيغة نادرة في الدراما المصرية قائمة على الحكايات المنفصلة، بحيث تشكل كل حكاية عالما مستقلا بأحداثه وأبطاله وإيقاعه الخاص.

هذه الصيغة منحت صناع العمل مساحة أرحب للتجريب واستكشاف موضوعات إنسانية ونفسية متباينة، كما منحت الجمهور تجربة مشاهدة متجددة لا تكتفي بالسرد الطويل المألوف.

ولعل النجاح الكبير الذي حققته الحكاية الأولى بعنوان «فلاش باك» بتصدرها نسب المشاهدة على منصة Watch It منذ الحلقة الأولى كان بمثابة جواز مرور لحكاية ثانية أكثر جرأة، هي «بتوقيت 2028»، التي اعتمدت بوعي على طاقات شبابية في الكتابة والإخراج والتمثيل والإنتاج، لتؤكد أن المخاطرة المحسوبة قد تكون مفتاحا لخلق دراما مختلفة.

وسيلاحظ المشاهد، أن الرابط بين الحكاية الأولى التي قام ببطولتها أحمد خالد صالح ومريم الجندي، وبين الحكاية الثانية ربما هو فكرة السفر عبر الزمن.. الحلقة الأولى من بتوقيت 2028 بدت أشبه ببوابة إلى عالم مزدوج الملامح؛ من جهة رومانسية دافئة، ومن جهة أخرى توتر نفسي متصاعد.

في هذا العالم نتعرف على داليدا (هنادي مهنا) وزوجها مازن (أحمد جمال سعيد)، إلى جانب ياسمين (نانسي هلال) وشريف (يوسف عثمان)، ووجود هذه الشخصيات الأربعة لم يكن عابرا، بل كان بمثابة شبكة مشاعر معقدة، حيث كل لقاء يكشف عن تاريخ دفين، وكل مشهد يلمح إلى أسرار تتجاوز ما يظهر على السطح.

البداية لم تكن مجرد تعريف بالشخصيات، بل تأسيس لعالم مليء بالصدمة والالتباس، حيث يصبح كل تفصيل محملا بإشارات تجعل المشاهد في حالة يقظة دائمة.

التسلسل الدرامي في الحلقة بني بمهارة، فمن مشاهد تعكس حبا زوجيا يبدو مستقرا، إلى لقطات تكشف علاقة غامضة بين الأصدقاء، يسير الإيقاع بتدرج محسوب، رفض مازن لفكرة بودكاست الأطفال التي اقترحتها داليدا، واعتذاره عن الاحتفال بذكرى الزواج.. 

كانا شرارات صغيرة لتمهيد صاعقة أكبر وهو مشهد الخيانة الصادم، حين تدخل داليدا الفيلا لتجد زوجها في أحضان صديقتها المقربة.. مواجهة حادة تنتهي بطرد ياسمين وسط ذهول الجميع، تاركة الجمهور أمام ذروة درامية مكثفة تفتح شهية الترقب لما سيأتي لاحقا.

لكن المفاجأة الكبرى جاءت عبر ما يمكن وصفه باللغز الزمني، ففي الطريق إلى الفيلا، تسمع داليدا عبر الراديو أمنيات العام الجديد 2028، رغم أنها تعيش أحداث 2026 وبعد لحظة الخيانة، تنقلب الأحداث فجأة لتجد نفسها من جديد في أجواء احتفالية بقدوم 2026، حيث يظهر الزوج بالتورتة والعائلة مجتمعة.

هذا الالتباس الزمني لم يكن مجرد حبكة خيالية، بل امتداد لرؤية الكاتبة نسمة سمير الفلسفية بل ورؤية المسلسل ككل: ما تراه ليس كما يبدو، فخلف الصور الواضحة توجد عوالم خفية وأقدار مبهمة.

وإذا بدا عنصر السفر عبر الزمن أقرب إلى الخيال العلمي، فإن قراءة أعمق تكشف أنه أداة سردية لاستكشاف الاضطرابات النفسية، القفزة الزمنية ليست مجرد لعبة درامية، بل قد تكون انعكاسا لانهيار نفسي تمر به داليدا، أو هروبا عقليا من مواجهة حقيقة الخيانة. بذلك ينتقل العمل من سؤال: ماذا سيحدث تاليا؟ إلى سؤال أعمق: ما الواقع الذي تعيشه داليدا؟ هنا تكمن قوة الدراما النفسية.

شخصية داليدا رسمت كمرآة للمرأة المعاصرة، بين قوة مهنية كصاحبة بودكاست، وهشاشة عاطفية في مواجهة الخيانة والأسرار الدفينة.

يعد أداء هنادي مهنا في دور داليدا من أبرز ركائز نجاح الحلقة الأولى، إذ استطاعت أن تجسد بمهارة ذلك المزيج الدقيق بين القوة والهشاشة، وتنقل عبر تعابير الوجه ولغة الجسد توترا نفسيا وصراعا داخليا جعل المشاهد يعيش حالتها ويتعاطف معها.

هذا الأداء لم يكن مجرد تفوق تمثيلي، بل عنصر محفز للحبكة نفسها، فالبنية السردية اعتمدت على أن يشارك الجمهور رحلة داليدا المربكة ويسير معها في متاهة الشك واللايقين، ولولا صدقية الأداء لبدت القفزات الزمنية والأحداث الغامضة مجرد حيل درامية، لكن مهنا نجحت في جعل اضطراب البطلة العقلي قابلا للتصديق ومؤثرا على المستويين النفسي والعاطفي، وهو ما منح الدراما النفسية مكانتها كجوهر الحكاية لا مجرد تفصيل ثانوي.
 
من واقع دراستي للسيناريو وتكنيكات الكتابة، أستطيع أن ألفت نظرك إلى شارة ذكية برزت في بداية الحلقة بظهور رواية It Starts With Us للكاتبة كولين هوفر إلى جوار البطلة النائمة في سريرها، التي تعد جزءا ثانيا لرواية عن خيانة وعنف وفرصة لبداية جديدة.

هذا التفصيل لم يكن ديكورا عابرا، بل رمزا يوازي رحلة داليدا: حلم ببداية جديدة يتحطم أمام خيانة مفاجئة، والرواية في بعدها الرمزي تشير إلى أن رحلة البطلة لم تبدأ بعد، وأن عليها مواجهة ماضيها قبل أن تصنع مستقبلها.

أسلوب الكاتبة نسمة سمير، صاحبة السيناريو والقصة والحوار، بدا واضحا في المزج بين التشويق والغموض والطرح الفلسفي.. الحوارات لم تكتب ككلمات عابرة، بل كاشفة لأسرار داخلية وظلال نفسية للشخصيات. التناغم بين الفكرة الفلسفية أن ما نراه ليس الحقيقة وبين تجسيدها في مشاهد مثل القفزة الزمنية، جعل النص متماسكا وذا عمق.

 

الأهم أن الرهان على الطاقات الشابة أثبت نجاحه، فالعمل قدم نموذجا لدراما عصرية تبتعد عن النمطية، وتطرح أسئلة وجودية بلغة بصرية ودرامية جاذبة.
 

«بتوقيت 2028» لم يكتف بصدمة المشاهدين، بل أرغمهم على التفكير والتساؤل، وجعل من الاضطراب النفسي محورا وجوديا، لا مجرد وسيلة للإثارة.

الحلقة الأولى أرست قاعدة صلبة لحكاية واعدة: حبكة متماسكة، أداء لافت، ورؤية فلسفية مغلفة بالغموض. ومع كل ما حملته من صدمات وتساؤلات، فتحت الباب لتكهنات واسعة حول ما ينتظر داليدا: هل القفزة الزمنية حقيقة أم وهم؟ هل ستتمكن من بناء بداية جديدة أم تبقى أسيرة أوهامها؟

والأكيد أن هذا المسلسل حتى الآن ناجح في التأكيد على أن الجرأة في التجريب، حين تقترن بوعي وإبداع، قادرة على صناعة عمل يستحق المتابعة بشغف.