الطب في مصر.. إصلاح أم تخلٍّ عن المسئولية؟
أعجبتني تجربة الصين في تدريب طلاب الطب على سرعة إسعاف المرضى وعلاجهم على أرض الواقع.. بينما يثير المشهد الطبي في مصر تساؤلات حائرة؛ ذلك أن وزارة الصحة قررت فجأة تعديل نظام التكليف لخريجي كليات الطب والعلاج الطبيعي والأسنان، بدءًا من دفعة 2025.
ليُصبح التعيين بالحكومة خاضعًا لـ احتياجات سوق العمل، بعد أن كان يشمل كل الخريجين بصورة تلقائية. وعلى الرغم من أن القرار لم يُلغِ التكليف تمامًا، إلا أنه فتح الباب واسعًا أمام القلق والتساؤلات: هل نحن أمام محاولة لتنظيم الموارد البشرية؟ أم خطوة تمهيدية للتخلّص التدريجي من مسؤولية الدولة تجاه شباب الأطباء؟.
تكمن خطورة القرار في توقيته ومحيطه. فبينما يُعاني القطاع الصحي من نقص حاد في الأطباء، خاصة في المناطق الريفية والنائية، تُطرح سياسات لا تضمن توزيعًا عادلًا للكوادر، بل تفتح الباب للانتقاء والتسيير الإداري أكثر من الاستجابة لاحتياجات فعلية على الأرض.
والسؤال المنطقي هنا: لماذا لا تتوسع الدولة في تعيين أطباء الأسنان، مثلًا، داخل الوحدات الصحية بالمراكز والقرى؟ أليس ذلك حلًّا مزدوجًا لأزمة التوظيف من جهة، وأزمة نقص الخدمة من جهة أخرى؟.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه التحذيرات من البطالة بين أطباء الأسنان، تُواصل الحكومة التوسع في إنشاء كليات طب خاصة وأهلية بلا مستشفيات تعليمية حقيقية، مما يُفاقم فجوة المهارة والخبرة بين الخريج والواقع الطبي. هل المطلوب إذًا هو بيع شهادة الطب لمن يدفع، أم إعداد طبيب قادر على إنقاذ حياة؟.
وفي الخلفية، تلوح أزمة أعمق: تضخم أعداد خريجي كليات الطب الخاصة والأهلية، والتي لا تملك في كثير من الأحيان مستشفيات تعليمية حقيقية، ولا تخضع لرقابة صارمة على جودة التدريب. هل يمكن أن نُعوّل على نظام تكليف عادل بينما نغضّ الطرف عن اختلال بيئة التعليم والتأهيل؟ ثم كيف نقبل أن يتساوى من حصل على 97% ومن دخل كلية الطب بمال أسرته فقط؟.
في المقابل، تبدو التجربة الصينية جديرة بالتأمل. فهناك، لا يُترك طالب الطب فريسة للمحاضرات الجافة والامتحانات النظرية، بل يخضع منذ سنواته الأولى لتدريبات عملية شاقة، وتأهيل بدني ونفسي متكامل، يجعله مستعدًّا للتدخل السريع وإنقاذ الأرواح. الطب في الصين واقع معاش، لا مجرد شهادة.
لسنا في حاجة إلي إلغاء التكليف أو تقنينه، بل إلي تطويره وتوجيهه بشكل مدروس. نحن بحاجة إلي تكليف يُوظَّف فيه الطبيب حيث يُحتاج إليه فعلًا، ويُدرَّب بما يليق برسالة الطب، ويُحترم ككفاءة لا كرقم في دفتر التعيينات.
لا نُريد أن نُخرّج أطباء يحملون لقبًا بلا مهمة، أو شهادة بلا ممارسة. نُريد أطباءً يصنعهم الميدان لا الورق، ويحتضنهم الوطن لا يدفعهم إلي الهجرة.
فهل تعي الحكومة خطورة ما يحدث؟ وهل تتحول احتياجات سوق العمل إلي شماعة لإقصاء الأكفاء؟ أم نرى مستقبلًا يُعاد فيه الاعتبار لقيمة الطبيب، لا لمجرد عدده؟.
لدينا وزير صحة لا يفكر خارج الصندوق. لذلك لا تنتظروا أي تحسن في المستشفيات ومجالات الصحة المختلفة. وانتظروا مزيدا من هروب الأطباء والممرضين.