رئيس التحرير
عصام كامل

بايخة!

افتقدت هذا الرد وسببه وما وراء هذه الكلمة منذ فترة طويلة، سواء كنت صاحبه أو قائله أو المستمع الحاضر أو متلقيه.. طبعا هذا الانفعال والرد يأتي بعد إلقاء نكتة أو قفشة يراها البعض ساذجة أو لا تسبب حتى الابتسامة.


ومنذ فترة غابت النكتة وحتى القفشة أصابها الوهن والاضمحلال ولم يفلح معها أصوات الباحثين والمنادين: نكتة تايهة يا أولاد الحلال! باختصار غابت النكتة أو أصابها الوهن ولا أقول الاحتضار لأنها لا يمكن أن تموت هنا في مصر حتى ولو شيعت في كل بقاع العالم.

 

هذا الشعب الذى كان يتغلب على مآسيه واحزانه بالضحكة والنكتة والمثل الشعبى وهذا سر بقائه وصموده ضد النوائب والأحداث.. يحارب بالقوة والسلاح حين يستلزم الأمر، فتكون نكاته في مواجهة من يخرج من مجال المواجه بالسلاح فتكون المواجهة والمقاومة بالنكتة والسخرية وما اقساه من سلاح يشنق من قيلت في حقه كل لحظة بإعادة طرح النكتة، التي تعيش وتحتمى بين ضلوع شعبها وتخفى وتحمى صاحبها ممن أطلقت عليه!

نكات الفراعنة والسومريون


وتشير دراسىة قام بها الدكتور بول ماكدونالد أستاذ علم التاريخ بجامعة وولويرامبتون البريطانية أن النكتة قديمة قدم التاريخ، وأن الفراعنة في مصر والسومريين في جنوب العراق أول من استخدموا النكتة وروح الدعابة والفكاهة، للتخفيف من حدة ما يواجهونه من مصاعب ومتاعب، خاصة ما يتكبدونه من معاناة من قبل أكبر سلطتين يواجهما الرجل: وهما الزوجة والحاكم!


وكشفت الدراسة عن أقدم نكتة ألقاها إنسان على وجه الأرض تعود إلى 3900 عام، عندما استخدم السومريون الذين كانوا يستوطنون جنوب العراق الحالى النكتة للتعبير عما يعانونه من متاعب من زوجاتهم النكديات.


أما أقدم نكته فرعونية، فتعود إلى العام 1600 قبل الميلاد، وهى نكتة محفورة على المعابد المصرية القديمة وبالتحديد فى عصر الملك سنفرو، وتقول النكتة الفرعونية إذا أردت أن تسلى الفرعون العظيم سنفرو وتخفف عنه همومه فعليك بدفع مركب في مياه النيل على متنها أجمل فتيات مصر، على أن تستبدل تلك الحسناوات ملابسهن بشباك للصيد، ثم تطلب من الفرعون الذهاب لصيد الأسماك فى النيل بدون شبكة صيد لينتقى الشباك التى تروق له.

الشعب والنكتة


ونجح الباحث بول ماكدونالد من خلال هذه الدراسة فى جمع أقدم 10 نكات فى التاريخ مؤكدا أن النكتة كانت تتغير بتغير الأزمنة والقرون، فتارة تأخذ شكل فزورة أو لغز وتارة أخرى تأخذ شكل الفكاهة والدعابة، لافتًا النظر إلى أن الغرض من التنكيت منذ فجر التاريخ هو تناول موضوعات محظور الاقتراب منها بروح من الدعابة للتملص من الوقوع تحت طائلة القانون من أكبر مهددى أى رجل منذ فجر التاريخ وهما الزوجة والحاكم.


والسؤال الذى لا نجد عنه إجابة الآن وأحيانا لا تجد حتى مزاجا لطرحه، سواء منك أو من غيرك هو: تعرف آخر نكتة؟ إيه آخر نكتة؟ أو سمعت النكتة دى؟! والسؤال الذى يطرح نفسه لماذا غابت النكتة وما الأسباب التي أدت الى ذلك؟

 
والمسأله ليست السياسة أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو حرية الرأي.. الخ من أسباب يطرحها البعض، فكلها أسباب لا تعترف بها القريحة الشعبية أو ترسخ في الوجدان الجمعى المصرى، فهنا يتخفى قائل النكتة وراء الشعب بل ويحتمى به والأكثر من ذلك أن الوجدان الشعبى يضيف لها من قريحته ما يجعلها أكثر بهجة أو أكثر وجعا أو يضيف عليها الشطة كما يقولون.

 

أو يطورها ويوظفها في اتجاه آخر غير التي قيلت فيه في البداية، ولا تستطيع أى سلطة إن كانت على مر التاريخ في القبض على الشعب بسبب نكتة أو حتى مواجهتها بالسوط.. لأن الأمر باختصار غاب أو اختفى أو غيب أو أخفى من أطلقها واحتضنها ونشرها الشعب على لسانه وما أقسى وما ألذع لسان الشعوب.

نكتة عبدالناصر


ولأن من حكم مصر أو عاش فيها أو استوطنها يعرف طبيعة شعبها كان يستوعب النكتة ويحاول معالجة أسبابها حتى ولو غضب كثيرا أو قليلا، بل ومنهم من كان يعيد طرحها في لقاء الزعماء باعتباره خفيف الظل أيضا بانتمائه للشعب المصرى والمواطن المصرى الذى من خصائصه أنه يتندر ويلقى النكتة على نفسه إذا لم يجد من يصب عليه نكاته وقفشاته.

 

وتذكر بعض الروايات عن وثيقة تضم تفاصيل اللقاء بين الزعيم جمال عبد الناصر والرئيس معمر القذافى ومعه بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة فى أغسطس 1970 وفيها حوار أعتقد أنه بالغ الأهمية، ويبدو أنه كان لتخفيف جو المناقشات، قال الرئيس جمال عبد الناصر إنه يتابع النكت دومًا ومنها نكتة: أن كلبًا مصريًا هرب إلى ليبيا وتم ضبطه، وفى التحقيق هناك سأله الليبيون لماذا جئت إلى هنا؟، فرد: لكى أقدر أهبهب!


وضحك الرئيس عبد الناصر وضحك الحضور، وواضح أن مغزى النكتة كان شديد الدلالة فى مسألة حرية الرأي التي كان يثيرها البعض عن حقبة عبد الناصر، وكان يعيد طرحها بلا حساسية 
ولم تنقطع النكتة في عصر الرئيس السادات والرئيس مبارك وفى كل الأحوال كانت ذات دلالة ومغزى تريد من خلالها توصيل رسالة.


نكتة تايهة يا أولاد الحلال!


والسؤال: لماذا غابت النكتة وما أسباب الغياب لان غيابها إن صح ليس دليل صحة لشعب يتنفس الضحكة، يستطيع أن يحيا بلا هواء، لكن لا يستطيع أن يحيا بلا نكتة.. يستطيع أن يحيا بلا حرية ووراء قضبان حقيقية أو مرئية، لكن لا يستطيع أن يحيا بلا ضحكة يقهقه بها حتى ولو من وراء القضبان.. 

 

شعب إذا فرض وجاءه الموت يفضل أن يموت ضاحكا.. حتى إننا نقول في الجلسات التي ساد فيها الضحك: "موتنا في القعدة من الضحك" ويقال عن الإنسان خفيف الظل: “موتنا من الضحك”.. 
شعب يتشبث بالخلود ويصنعه بالضحك والابتسامة واعتقد أن ذلك وراء قول العالم الشهير سيجموند فرويد أن الضحك والفكاهة واحدة من أهم إنجازات الإنسان النفسية، بوصفها دفاعات نفسية لمواجهة المخاطر المهددة للذات.

 
والسؤال: هل غابت النكتة وندرت وارتفع سعرها لدرجة الاختفاء بسبب موجات الغلاء ونار الأسعار والازمة الاقتصادية؟ 
 

يرى البعض إن المصرى لا يقول النكتة أوالقفشة وهو مأزوم في لقمة عيشه وتفاصيل حياته، وأيضا لا يفعلها وهو مترف ومتخم لدرجة القرف من تعود الملذات وتكرارها.. فهل يا ترى نعانى من أزمة الغلاء أم نغرق من أزمة الترف والتخمة من الملذات؟!
 

فالنكتة من وجهة نظر بعض الباحثين بنت الحراك الاجتماعى، الممتد في شرائح الطبقة الوسطى، وربط بعضهم بين وجود ما قد تصح تسميته بـ«مفارخ» النكتة، التى يتم فيها تفريخ النكت وبين غيابها، وفى مقدمة تلك المفارخ جلسات الكيف بتدخين الحشيش، وتعاطى غيره من الكيوف، وسهرات الأنس والطرب والفرفشة، التى كانت معتادة بين شرائح من التجار والحرفيين وأصحاب الأموال، بل فى بعض التجمعات، التى تنتج نكتًا خاصة بها كأروقة التعليم فى الأزهر، وكالموالد المنتشرة مكانًا فى كل ربوع مصر.

 


وتحولت النكتة في قريحة من يطلقها إلى سلاح ثقافى اجتماعى في المواجهات بين الناس ومن يحكمونهم، وبين بعض الجهات وبعضها الآخر، بل بين أهالى مناطق وأهالى مناطق أخرى.
وللحديث بقية!
YOUSRIELSAID@YAHOO.COM

الجريدة الرسمية