رئيس التحرير
عصام كامل

مدرسة الشاذلي (7).. مكين الدين شيخ القراء

هو القطبُ الرباني، صاحب المكاشفات والمجاهدات، الحائز لأسرار أهل الحقائق والتمكين، شيخ المشايخ الراسخين، الفقيه المحدّث عبد الله بن منصور، الإسكندراني، الشاذلي، المقرئ الشهير ب مكين الدين الأسمر رضي الله عنه. كان رحمه الله من أرباب المجاهدات وله مكاشفات عجيبة وأحوال غريبة. ولد بالإسكندرية سنة 610، وبها نشأ وحفظ القرآن الكريم وبرع فيه وفي علومه حتى صار أوحدَ أهلِ زمانه، وأُسندتْ إليه المشيخةُ فكان شيخَ القراءات في عموم الشرق، وشُدَّت إليه الرِّحال، ووفدت عليه أكابرُ الرجال.

 

أخذ عن أبي القاسم الصفراوي رحمه الله علمَ القراءات فأقرأ النَّاسَ مدةً، وكان في بدايته يخيطُ الملابس ويتقوَّتُ من ذلك وهو مع ذلك يطلبُ العلم، ووصل في المجاهدة أنه كان يحصي كلامَه الذي صدر منه بالنهار، فإذا جاء المساء حاسبَ نفسه فما وجد من خيرٍ حمدَ الله وأثنى عليه، وما وجدَ من غير ذلك تابَ إلى الله وأنابَ.

معركة المنصورة

 

صحب مكين الدين الأسمر شيخه الأستاذ أبو الحسن الشاذلي، وحضر معه معركة المنصورة ضد الصليبيين سنة 648 هـ. وقال رضى الله عنه: مكثتُ أربعين سنة يُشكل عليَّ فى علوم الصوفية، إلى أن قدَّر الله اجتماعى بالشاذلي فأزال عني ما أُشكل عليَّ. قال فيه سيدي أبو الحسن الشاذلي، رضى الله عنه: الشيخ مكينُ الدين الأسمر أحدُ السبعة الأبدال.

 

وله كرامات ومكاشفات، قال ابنُ عطاء الله في "لطائف المنن": جاء الفقيهُ مكين الدين الأسمر إلى سيدي أبي العباس، وقال له: يا سيدي، رأيتُ ليلةَ القدر، ولكنْ ليست كما أراها كلَّ سنةٍ، رأيتُها هذه السنة ولا نورَ لها. فقال له الشيخ: نورُكَ طَمَسَ نورها يا مكين الدين. وكان مكين الدين من أرباب البصائر، ومن النافذين إلى الله.

 

قال سيدي ابن عطاء الله السكندري في كتابه "لطائف المنن": أخبرني الشيخ مكين الدين الأسمر، قال: حضرتُ في المنصورة في خيمة فيها سلطانُ العلماء عزُّ الدين بن عبد السلام، والشيخ تقيُّ الدين بن دقيق العيد، والشيخُ مجد الدين علي بن وهب، والشيخ محيي الدين بن سراقة، والشيخ أبو الحسن الشاذلي ورسالة القشيري تُقرأ عليهم وهم يتكلمون، والشيخ الشاذلي صامتٌ إلى أن فرغ كلامهم، فقالوا له: ياسيدنا نريد أن نسمع منك شيئًا، فقال لهم: أنتم سادات الوقت وكبراؤه وقد تكلمتم، فقالوا: لابد أن نسمع منك، فسكت الشيخُ، ثم تكلم بالأسرار العجيبة والعلوم الغريبة، فقام الشيخ عز الدين وخرج من صدر الخيمة وفارق موضعه، وقال: اسمعوا هذا الكلام القريب العهد من الله.

 

أسمرُ اللون.. أبيضُ القلب

 

وكان الشيخ أبو الحسن يقول عنه: بينكم رجلٌ يقال له عبد الله بن منصور أسمرُ اللون، أبيضُ القلب، والله إنه ليكاشفني، وأنا مع أهلي وعلى فراشي. ومرةً أُخرى قال فيه: ما سلكتُ غيبًا من غيوب الله إلا وعمامته تحت قدمي. ولقد أخبرني الشيخ مكين الدين هذا قال: دخلتُ مسجد النبي دنيال بالإسكندرية بالدِّيماس، فوجدتُ النبيَّ المدفونَ هناك قائمًا يُصلي، وعليه عباءةٌ مخطَّطة، فقال لي: تقدَّم، فصلِّ؛ فإنكم من أمَّة نبيٍّ لا ينبغي التقدُّم عليه. فقلت له: بحقِّ هذا النبي إلا ما تقدَّمت أنت، فصلّيتَ. قال: فأنا أقول بحقِّ هذا النبي إلا وقد وضعَ فمَه على فمي إجلالًا للفظ النبيِّ، كي لا تبرزَ في الهواء، قال: فتقدَّمتُ فصلّيت.

إخوة يوسف

 

وأخبرني مكين الدين: بتُّ ليلة بالقَرَافة، وكانت ليلةَ الجمعة، فلمَّا قام الزُّوارُ وقمت معهم، وهم يتلون إلى أن انتهوا في التلاوة إلى سورة يوسف إلى قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾ [يوسف: 58]، وانتهوا في الزيارة إلى قبور إخوة يوسف، فرأيت القبرَ قد انشقَّ، وطلع منه إنسانٌ طويلٌ، صغيرُ الرأس، آدم اللونِ، وهو يقول: من أخبركم بقصَّتنا؟ هكذا كانت قصتنا.

 

ولقد كنت يومًا مضطجعًا وأنا ساكنٌ مطمئن، فوجدتُ في قلبي انزعاجًا على بغتة، وباعثًا يبعثني على الاجتماع بالشيخ مكين الدين رضي الله تعالى عنه، فقمت مسرعًا، فدققتُ عليه الباب، فخرج، فلمَّا وقعَ نظرُه عليَّ قال لي: أنت ما تجيء حتَّى يسيرَ النَّاسُ خلفك.. وتبسَّم في وجهي، فقلت له: سيدي، قد جئتُ، فدخل وأخرج لي وعاءً، وقال لي: هذا الوعاء اذهب به إلى الشيخ أبي العباس، وقل له: قد كتبتُ آيات من القرآن ومحوتُها بماء زمزم، وشيء من العسل.. 

 

فذهبتُ بذلك إلى الأستاذ، فقال لي: ما هذا؟ قلت: أرسله إليكم الفقيهُ المكين الأسمر، فأدلى فيه إصبعًا واحدًا، وقال: هذا بحسب البركة، وفرَّغَ الوعاء، وملأه عسلًا، وقال لي: اذهب به إليه. فذهبتُ بذلك، ثم عدت إليه بعد ذلك فقال لي: رأيتُ البارحة ملائكةٌ أتوني بأوعيةٍ من زجاج مملوءةٍ شرابًا، وهم يقولون: خذ هذا عوضَ ما أهديتَ الشيخ أبي العباس. انتهى كلام ابن عطاء الله رضى الله عنه في "لطائف المنن".

 

 

وكرامات سيدي مكين الدين لا تُحصر، كان رضى الله عنه في زمنه شيخَ القرَّاء، توفي بالإسكندرية سنة 692، ودفن إلى جانب سيدي أبي العباس المُرسي، رضى الله عنه، في ضريحٍ أُعدَّ له، ومقامُه هناك ظاهرٌ يُزار ويُتبرَّك به، نفع الله به المسلمين.

الجريدة الرسمية