رئيس التحرير
عصام كامل

مذكرات رجل مبتور

عم بهنس رجل طيب، تجاوز الستين بحفنة سنوات، فلا أحد يعلم متى ولد على وجه التحديد، غير أن من عاصروه في طفولته –إذ كان طفلا كما باقي البشر– يقولون إنه أقدم من الجامع القبلي المشيد جنوب القرية. وقبل سنة تقريبا، خرج عم بهنس على ظهر حماره، قاصدا البلدة المجاورة، من أجل شراء بعض احتياجاته، التي لا يجدها إلا هناك، فقريتنا صغيرة، تفتقر للكثير من الأشياء، أما البلدة التي قصدها فأكبر وفيها كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ.

 

في الطريق –وكما يحكي هو– لاحظ عم بهنس شيئا غريبا في الأرض، فأمر حماره بالتوقف، ثم نزل من على ظهره، وراح يتفحص ذلك الشيء، وإذ به يد بشرية.. خمسة أصابع بالتمام والكمال، ليد عفية تبدو في حالة جيدة، ما يعني أنها بترت قبل وقت قصير.. فكر العم بهنس كثيرا فيما قد يفعله بهذه اليد، وقال في نفسه، إن صاحبها ربما يبحث عنها الآن، فأخذها وغسلها بالماء، ثم وضعها في إناء به ماء وملح، كي يحفظها..

 

قبل أن يعود عم بهنس إلى قريتنا، ذهب إلى الجامع الكبير في البلدة المجاورة، فصلى الظهر، ثم تحدث إلى إمام الجامع، وطلب منه أن يذيع في الميكروفون نداء حتى يستمع إليه صاحب اليد المبتورة، ليأتي كي يأخذها، ويعيد تثبيتها مكانها، بمساعدة طبيب خاصة وانها مازالت تحتفظ بحالتها..

 

كرر الشيخ النداء في ميكروفون الجامع الكبير، وكذلك حدث الأمر نفسه في كل جوامع البلدة، والقرى المجاورة، حتى وصل الأمر إلى مسامع مأمور المركز، الذي عمم بيانا في باقي القرى والنجوع والكفور، لكن أحدا لم يأت ليستلم اليد المبتورة..

 

ذهب المأمور إلى عم بهنس، وأخبره أن اليد ستبقى في عهدته إلى أن يأتي صاحبها، فعاد الرجل إلى قريتنا ممسكا بالإناء المحتفظ فيها بالكف والأصابع الخمسة. مرت أيام ولم يأت أحد.. وظل الكف في الإناء، بينما كان عم بهنس يستبدل ماء جديدا بالماء القديم ويضيف الملح، من وقت لآخر، حتى يضمن بقاء اليد على حالتها..

 

بعد مرور أسبوع، لاحظ العم بهنس أن الكف بدأ ينمو ويكبر، ولو بمقدار قليل للغاية، غير أنه كان كافيا لأن يلاحظ.. ولم يتوقف الآمر عند حد نمو الكف، بل كانت الأصابع تتحرك.. نعم كانت تتحرك، وهو أمر مدهش، دفع العم بهنس إلى أن يفرك عينيه ليتأكد أنه لا يحلم أو أنه جد جن!

 

حكاية قاطع الطريق

 

العم بهنس، أخبر رجلا صالحا يعيش في قريتنا بأمر اليد ونموها وتحرك أصابعها، فقال له ذلك الصالح، إن اليد ربما لم تبتر من صاحبها، بل قد يكون الأمر معكوسا، وهو أن صاحب اليد هو من بُتر منها.. أي أن الرجل ميت بينما يده مازالت حية..

 

في البداية لم يستوعب عم بهنس الأمر، غير أنه لاحظ في الأيام التالية استمرار نمو ذلك الكف وأصابعه، حتى صار له ذراع، ثم كتف! وبعد مرور نحو شهرين، كانت اليد المبتورة قد أصبحت نصف رجل.. النصف العلوي كاملا من صدر وظهر وكتفين وبطن، لكن دون رأس..

 

ظل العم بهنس يغذي اليد التي باتت نصف رجل إلا رأسا، حتى نبت الرأس، وبعد خمسة أشهر تحولت إلى رجل كامل، نبتت الساقان والقدمان.. وحين اكتمل الرجل، حكى لعم بهنس حكايته، فقال إنه كان قاطع طريق، يسرق وينهب كل من يمر قرب الكهف الذي كان يعيش فيه في الصحراء المتاخمة للقرية من ناحية الغرب..

 

وواصل الرجل حكايته، مبينا طغيانه وكيف أنه لم يكن يرحم كبيرا ولا صغيرا، ومع ذلك كانت له عادة غريبة –بالنسبة لقاطع طريق– وهي أنه رغم جبروته إلا أنه لم يكن يستطيع التحكم في كف يده اليسرى، تلك اليد التي كانت تمسح على رؤوس الضحايا وتربت على أكتافهم، فلما بلغ غضبه من يده العاصية المستعصية عليه تلك قرر قطعها..

 

ويحكي الرجل، أنه استيقظ ذات صباح، فأخذ سكينا حادا، وقطع يده بنفسه، حتى يتخلص من تلك اليد التي تمردت عليه، ولم تنفذ أوامره بالقتل والسرقة، بل كانت حانية ودودة مع الضعفاء.. ولا يتذكر قاطع الطريق هذا ما حدث، فيقول إنه فقط وحين نجح في فصل يده عن باقي جسده، غاب عن الوعي، ولا يتذكر شيئا سوى أنه كما غاب عن الدنيا فجأة حين قطع يده عاد إلى الدنيا فجأة ليجد نفسه داخل قدر به ماء وملح..

 

 

أما الجزء الناقص من الحكاية، فيرويها أحد اتباع قاطع الطريق العائد للحياة، فيقول إن صاحبه حين قطع يده بنفسه، ذاب كما فص الملح، ولم يتبق منه سوى تلك اليد، ولما رأى هو ذلك واتباع قاطع الطريق فروا هاربين من هول ما رأت أعينهم، فيما بقيت اليد في مكانها إلى أن وجدها عم بهنس.. من وسط الجموع خرج الرجل الصالح، وقال «إن جزءا صغيرا طيبا قد يصلح جسدا كاملا فاسدا».   

الجريدة الرسمية