رئيس التحرير
عصام كامل

سيد القراء وإمام المنشدين

القارئ الشيخ علي محمود هو أبرز مؤسسي دولة التلاوة المصرية وأغزرهم موهبة. كما أنه واحد ممن خرجوا من  معركة الحرمان من نعمة البصر مُظفرين مُنتصرين، تمكن الشيخ علي محمود من تخليد اسمه رغم رحيله قبل 76 عامًا بالتمام والكمال، وسوف يبقى ذكرُه في قوائم الخالدين، حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، جزاءَ إخلاصِه للقرآن الكريم وإتقان تلاوته تجويدًا وترتيلًا.


الشيخ على محمود هو أحدُ المؤسسين الحقيقيين لدولة التلاوة المصرية التي أشرق نورُها على العالم الإسلامي في مطلع القرن الماضي أو قبله قليلًا، ومن خلاله وتحت رعايته وفي كَنفه، خرجتْ أسماء أخرى لامعة في فنون التلاوة والإنشاد، حتى صار معروفًا في عصره بأنه سيدُ القراء وإمامُ المنشدين.


أدهشتْ موهبة الشاب اليافع أبناء زمنه وكلِّ مَن استمع إلى صوته، حتى أنَّ الأديب الراحل محمد فهمي عبداللطيف وصفه يومًا قائلًا: "كان الشّيخ علي محمود سيّدَ المنشدين على الذكر، والمُغنين للموالد والمدائح النبوية، وكأنِّي بهذا الرجل كان يجمعُ في أوتار صوته كلَّ آلات الطّربِ، فإذا شاءَ جرى به في نغمةِ العود أو الكمان، أو شدا به شدوَ الكروان، وقد حباهُ اللهُ لينًا في الصوت، وامتدادًا في النَّفَس".

معلم وملهم 


وُلد الشيخ علي محمود في العام 1878 بالقاهرة لأسرة فقيرة، وأصيب صغيرًا بحادث أودى ببصره كاملًا، فلم يستسلم الطفلُ الصغيرُ لهذا الابتلاء المبكر جدًا، لكنه اتجه إلى حفظ القرآن الكريم الذي أنار بصيرته وأضاءَ فؤادَه، ودرسَ الفقه، كما تعلمَ الموسيقى، وعرف ضروبَ التلحين والعزف وحفظ الموشحات، وتلا القرآنَ الكريمَ في المساجد حتى ذاع صيته، وطبَّقتْ شهرتُه الآفاقَ بعدَ ذلك وأصبح قارئًا كبيرًا يتلو القرآن في المسجد الحسيني الذي تشهدُ جنباته ومآذنه على موهبته المتفردة، وربما كانت أوفر حظًا من غيرها؛ لأنها استأثرت به مؤذنًا وقارئًا ومنشدًا، كما أصبح قارئًا للعائلة الملكية.


الثالث من يوليو في العام 1939، كان يومًا فارقًا في حياة الشيخ علي محمود، عندما تمَّ اعتمادُه قارئًا بالإذاعة المصرية، وهي الخطوة التي ربما كانت سببًا رئيسًا في خلود صوته إلى الآن، وهي فرصة لم يحظَ بها قراءُ أكابرُ عاصروه أو سبقوه.


ولأنه كانَ مدرسة أو معهدًا أو جامعة بذاته، فإنَّ الشيخ علي محمود كان مُعلمًا وملهمًا لأجيال متعاقبة من الموهوبين والنوابغ، حيث تتلمذ على يديه كلّ من: الشيخ محمد رفعت، والشيخ طه الفشني، والشيخ كامل يوسف البهتيمي، والشيخ محمد الفيومي، ومن المطربين والموسيقيين: الشيخ زكريا أحمد والموسيقار محمد عبدالوهاب، وسيدة الغناء العربي أم كلثوم وأسمهان.


ولأنه كان استثنائيًا، فإن مبدعًا استثنائيًا مثل الشيخ عبد العزيز البشرى، وصف صوتَ الشيخ على محمود قائلًا: "كان صوته من أسباب تعطيل المرور فى الفضاء، لأنَّ الطيرَ السارحَ يتوقفُ إذا استمعَ لصوته"، في إشارةٍ منه إلى جمال صوته وبهائه الذي يتوهج حتى تصل أصداؤه إلى آفاقِ السماء، فتُربك الطيور السابحة في الفضاء التي تتوقف رغمًا عنها لتستمعَ وتتمتعَ وتُسبحَ اللهَ في ملكوته، وإنْ من شيء إلا يسبحُ بحمده، ولكنْ لا تفقهون تسبيحَهم. 

عندما أتمَّ الشيخ علي محمود عامَه الثامنَ والستينَ، زاره ملكُ الموت قابضًا، بعدما تركَ ثروة إبداعية هائلة من التلاوات القرآنية المجودة، فضلاَ عن العديد من الأناشيد والموشحات والأغاني، فضلًا عن الأذان الذي تحوّلَ عبر حنجرته إلى تحفة فنية خاصة. 

 


وبوفاةِ القارئ الشيخ علي محمود، فقدَ العالمُ الإسلاميُّ عَلَمًا خفاقًا وبلبلًا صداحًا، تشهد على ذلك التلاواتُ القرآنية والابتهالاتُ والتواشيحُ الدينية المُتاحة في أرشيف الإذاعة والتليفزيون ومنصَّات التواصُل الاجتماعي.. رحِمَ اللهُ الشيخ علي محمود، وأنزله منازل الصالحين، وتحقق فيه حديثُ الرسول الكريم: "يُقال لقارئ القرآن: اقرأ ورتلْ وارتقِ كما كنتَ ترتلُ في الدنيا، فإنَّ منزلتك عندَ آخر آية كنت تقرؤها"، وأعادَ إلى دولة التلاوة المصرية بهاءَها المفقودَ ومجدَها الزائلَ.

الجريدة الرسمية