رئيس التحرير
عصام كامل

إن فاتك القمح اتمرغ في ترابه!

"إن فاتك القمح إتمرغ في ترابه".. نعم هذا معنى المثل الشهير "إن فاتك الميرى إتمرغ في ترابه" قبل أن يحرف معناه بعد الاحتلال العثمانى لتحفيز الناس على الانخراط في كل ما هو ميري أى حكومي وإن لم يحدث فالتمرغ في ترابه مطلوب بحثا عن الاستقرار. وحكاية هذا المثل بدأت في العصر الرومانى ومنذ القدم حين كانت مصر سلة الغذاء للعالم، وللقمح بصفة خاصة الذى قدسه الفراعنة ورسموا سنبلته على جدران معابدهم وأطلقوا عليها "ميرا".. 

 

وحين احتل الرومان مصر فرضوا عليها ضريبه تسمى «الأنونا المدنية» عبارة عن كميات من القمح يتم شحنها إلى روما حسب احتياجاتهم، وكان يطلق على هذه الشحنة «الشحنة السعيدة»، وفي عصر الاحتلال البيزنطي تحولت الشحنة إلى القسطنطينية. وكانت  الشحنة الغذائية من القمح المصري تصنع 80 ألف رغيف خبز يوميًّا لأوروبا، بما يوازي نحو 11 مليون أردب قمح سنويا، وتزايدت  الشحنة، وذات عام تأخرت الشحنة لفترة فحدثت ثورة جياع في أوروبا.

 

وفي عصر الخلافة الإسلامية، وخلال عام الرمادة وجفاف الجزيرة العربية، أرسل عمرو بن العاص، حاكم مصر، قافلة غذائية أطعمت الجزيرة العربية وكفتها مؤونة المجاعة. وهكذا ظلت مصر سلة غذاء العالم ومخزنا للسلع في المنطقة العربية وأوروبا، كما ظلت تحقق الاكتفاء الذاتي حتى عهد محمد علي.

 

ولأن الفلاح المصرى كان كالدجاجة المحرومة من بيضتها كان الرومان ومن تبعهم بشكل أو بآخر يستولون على ما ينتجه ولا يتركون له إلا الفتات، فكان الفلاح الذى زرع وحصد يبحث عن بقايا القمح في التراب المخزن فيه ولذلك أطلق الفلاح المثل العبقرى إن فاتك الميرى أى القمح إتمرغ في ترابه أى أبحث فيه عن بعض حبات القمح  لتعيش عليها..

 

والسؤال الذى يسأله الجميع كيف تحولت مصر من سلة العالم في القمح إلى أكبر مستورد له حتى أصبح الشعب مرهونا بغذائه لجميع الظروف الخارجية، المقصود منها وغير المقصود.. يعنى قضية أمن قومى.. ولم نتعلم من الأزمات المتتالية نتيجة الاعتماد على استيراد القمح.

 

أيام جمال عبدالناصر

 

ويؤرخ الدكتور عبد السلام جمعة، الملقب بـ«أبو القمح»، لبداية مشكلتنا مع القمح بقوله: «عندما اخبروا الرئيس عبدالناصر أن الفلاحين والبسطاء يأكلون رغيف الخبز المصنوع من الذرة، أصدر قرارًا بصناعة رغيف الخبز من القمح، وهو ما زاد من حجم الاستهلاك المحلى للقمح بشكل تحتم معه استيراده من الخارج، رغم القيمة الغذائية لرغيف الخبز المصنوع من الذرة.

 

وبمرور الوقت تفاقمت المشكلة نتيجة زيادة عدد السكان مقارنة بالمساحة المزروعة منه، إلى جانب إتخاذ الحكومات المتعاقبة، عددًا من القرارات التى أضرت بإنتاجه منها التوريد الإجبارى للقمح، وهو ما كان يعنى قيام الفلاح بتوريد نحو 3 أردب من إنتاج الفدان للحكومة مقابل ما يحصل عليه من أسمدة، فأصبح الفلاح يدعم الحكومة وليس العكس، فى نفس الوقت الذى تركت فيه الحكومة الفلاح ليزرع ما يشاء دون توجيه أو تخطيط تقتضيه سياسة الدولة الزراعية.

 

لم نعد نلتفت للمهم، ولم نتعلم من الدرس الذى لقنته لنا واشنطن عام 1965، حينما قررت عقابنا بعدم بيع القمح لنا، وهو ما تسبب فى نشوب أزمة فى كل القطاعات الصناعية والغذائية المرتبطة بالدقيق. ومع ذلك واصلنا ذات السياسة التى غاب عنها البعد الاستراتيجى لزراعة القمح، بل تزايد حجم الاستيراد بمرور السنوات، ففى عهد الرئيس السادات كنا نستورد 1.5 مليون طن قمح، ارتفع فى العام 2000 ليصل إلى 2.5 مليون طن.. وحدثت انتفاضة 18 و19 يناير 1977  وكان من أسبابها إرتفاع سعر الرغيف من نصف قرش إلى قرش ونصف.. 

 

مبارك وشهداء الخبز

 

وفي عهد الرئيس حسني مبارك وأثناء حصار غزة 2008 أطلق تصريحا جريئا في بداية الأزمة قائلا: لن نترك غزة تموت جوعا.. لم يأت الرد على هذا التصريح من تل أبيب، وإنما جاء من واشنطن عبر تأخير توريد شحنات من القمح إلى مصر، مما تسبب في أزمة نقص الخبز في مارس  2008، ووقع على إثرها عشرات القتلى والجرحى  خلال تشاجر المواطنين في الطوابير الممتدة أمام منافذ توزيع الخبز، وعرف المصريون لأول مرة في تاريخهم مصطلح شهداء الخبز.

 

كامب ديفيد

 

يقول د. أحمد الليثى وزير الزراعة الأسبق: إن زراعة القمح ليست من بين أولويات الحكومة على مر سنوات طويلة وأضاف: على مدى 40 سنة لم يهتم بقضية تحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح سوى وزيرين للزراعة، الأول هو الدكتور مصطفى الجبلي الذى تولى وزارة الزراعة فى الفترة من 1972 وحتى منتصف 1973، أما الوزير الثانى فكان أنا، ولكن أيا منا لم يحقق ما سعى له. وكلمة أقولها للتاريخ، إن عدم نجاحنا فى تحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح لا علاقة له باتفاقية كامب ديفيد، كما أنه ليس له علاقة بالرئاسة ولكنه قرار حكومى. 

 

فعندما أعلنت فى العام 2004 سياسة زراعية، تهدف لزراعة 3 ملايين و60 ألف فدان بالقمح، أيدنى الرئيس مبارك بنفسه، ولكن الحكومة لم تكن مستعدة لذلك الأمر. والدليل أن المساحة المزروعة بالقمح فى الموسم 2005 -2006 بلغت 3 ملايين فدان، ولكنها تناقصت فى الموسم 2006 - 2007 إلى 2.2 مليون فدان، نتيجة وضع العراقيل فى طريق تحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح.

 

 

وأعتقد مما ذكرته لا سبيل أمامنا إلا الإكتفاء الذاتي من القمح بزيادة المزروع من الأراضي وبسياسة محددة تعوض الفلاح بعدم زراعة محاصيل أخرى أكثر كسبا والإستفادة من التطور العلمى الذى يتيح إستزراع القمح في بيئات مختلفة ومياه قليلة.. ألخ من تقنيات لا مجال لذكرها.

 القمح والذرة أمن قومى، لن نموت لو لم نصدر البرتقال أو الفراولة أو.. أو.. لكن نموت بدون قمح أو ذرة يمكن خلطة به لو اضطررنا!

yousrielsaid@yahoo.com

الجريدة الرسمية