رئيس التحرير
عصام كامل

الأغنية الدينية.. ماضٍ عريق وحاضر باهت

هذا ليس تأريخًا لظاهرة الأغنية الدينية الضاربة فى جذور التاريخ، حيث تزامن ظهورها مع إرهاصات البعثة النبوية، عندما استقبل الأنصار الرسول الكريم بـ"طلع البدر علينا"، ولكنه رصدٌ بسيط لتحولات الأغنية الدينية المصرية وما نالها من تراجع ملفت أدى إلى انطفاء وهجها وخفوت بريقها، على غرار "دولة التلاوة"، وبحثٌ فى ملامح هذا التراجع وأسباب هذا الخفوت، لا سيما داخل مصر التى كانت يومًا ما مهد الأغنية الدينية الراسخة والخالدة رغم تعاقب السنين والأيام، وسُبل إعادتها إلى سيرتها الأولى، أو نقلها نقلة نوعية تواكب ما استجدَّ على واقع المسلمين من مستجدات ومتغيرات جِسام. 

 

عرفتْ مصرُ خلال العقود الماضية ألوانًا مختلفة من الأغنية الدينية، فشدتْ "أم كلثوم" بـ"إلى عرفات الله" و"حديث الروح" و"نهج البُردة"، وغنَّتْ "ليلى مراد": "يا رايحين للنبى الغالى"، وقدَّم "محمد الكحلاوى" أنشودته "لأجل النبى"، وغيرهم كثيرون، ممن بقيتْ أغنياتهم حتى يومنا هذا؛ بسبب ما توافر لها من عناصر الإتقان والجودة والإخلاص. وكانت كل أغنية من الأغانى الدينية تقدم قيمة أخلاقية وإنسانية ودينية جديدة ومُبتكرة، حتى خلفَ من بعدهم خلفٌ أضاعوا الأغنية الدينية وأهدروا تاريخها؛ لتتحول على أيديهم وحناجرهم إلى أغانٍ جافة وجوفاء منزوعة الدسم الإبداعى والقيمة الفنية. 

 

الأغنية الدينية فى مصر غدتْ شائهة ومُشوَّهة ومجرد كلمات متراصة متجاورة لا تقود إلى شيء. يتوهم بعض المطربين أن "الخنفان" و"الشحتفة" و"التباكى" عناصرُ قادرة على تصنيع أغنية دينية ذات جودة فنية متكاملة، وهذا –بكل تأكيد- غير صحيح. الإتقانُ، بكل تفاصيله بدءًا من الكتابة والصوت والإخراج وسخاء الإنتاج، أبرز العناصر المفقودة فى صناعة الأغنية الدينية المصرية فى السنوات الأخيرة. 

 

عناصر الجودة الفنية

 

يمكن أن نذكر في هذا السياق أغنية يتم إذاعتها بإلحاح اسمها: "بالحب تكتمل الأشياء" تعتبر نموذجًا فجًّا لغياب عنصرى الإتقان والجودة؛ فبعيدًا عن سطحية كلماتها، فإنَّ صُناعها الذين رغبوا فى أن تكون كلماتها فصيحة، لم يكلفوا أنفسهم عناء الاستعانة بمُصحح لغوى، يضبط حروفها وكلماتها ومعانيها، حتى غدا المرفوع منصوبًا، والمجرور مرفوعًا. هناك مطربون آخرون سجلوا أسماء الله الحسنى، دون وعى وإعداد جيدين، فخرجت فى أسوأ صورة، من حيث النطق والإحساس.

 

غيابُ الرقابة الفنية الجيدة أو تغييبها فى مثل هذه الحالات يتسببُ فى تمرير أعمال غنائية لا قيمة لها ولا وزن. النوايا الحسنة، إنْ وُجدتْ، لا تكفى لتقديم أغنية دينية تجذب الأسماع وتنير الأفئدة، وترتقى بمشاعرهم وأخلاقهم. الأغنية الدينية ليست ترانيم غامضة ولا تراتيل مُشفَّرة، كما أن المطربين الذين تخصصوا وشاركوا فى تقديم الإسفاف الفنى والأغانى الخليعة، لن يكونوا قادرين، فى الوقت ذاته، على إقناع المتلقى/ المشاهد/ المستمع بأى مضامين دينية وروحانية، حتى لو مُفتعلة ومُصطنعة.

 

فى المقابل..هناك مطربون لا يجيدون اللغة العربية ولا ينطقون بها، وليست لغتهم الأصلية، ولكنهم، فى الوقت ذاته، تمكنوا من تقديم أغانٍ دينية باللغة العربية الفُصحى، بكلمات ومعانٍ رشيقة وإنتاج كبير، طافتْ العالم، وحققتْ مشاهدات مليونية، وطبَّقتْ شهرتُها الآفاق، مثل: "سامى يوسف" و"ماهر زين"، حيث يُجسد كل منهما مشروعًا فنيًا  ناضجًا ومتكاملًا، تتوافر فيه جميع عناصر الجودة الفنية، وهو ما تترجمه أرقام مشاهدات أغانيهما التى تتراوح بين 5-15 مليون مشاهدة للأغنية الواحدة.

 

الأغنية الدينية المصرية بشكل عام، يجب أن تغادر مجالها الضيق إلى مجال أوسع، وأن تقتدى بتجارب "سامى يوسف" و"ماهر زين" وغيرهما من أصحاب السبق والتميز. الخطاب الديني نفسه، بمعناه الواسع، لم يعد محصورًا على الزوايا والمساجد، بل أصبح حاضرًا وبقوة في وسائل الإعلام وخاصة القنوات التليفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي.. 

 

 

وهذه المعانى –على أهميتها- يجهلها أو يتجاهلها صناع الأغنية الدينية فى مصر الذين يتعاملون معها بمنطق غسيل السمعة والاستسهال أو استسلامًا لحالة من "الدروشة" المؤقتة، وليس انطلاقًا من كونها رسالة حقيقية قادرة على اختصار المسافات وتحقيق ما تعجز عنه الخطابات الدينية النمطية الغارقة فى الكلاسيكية والتقليدية، حال تضافر جميع مقومات إنجاحها. أعيدوا إلى الأغنية الدينية الراقية كبرياءها المفقود، واجعلوها ذراعًا فاعلًا ضمن قوى ناعمة قادرة على النفوذ والوصول إلى قطاعات ومجتمعات لا تعرف شيئًا مذكورًا عن جوهر دينها.

الجريدة الرسمية