رئيس التحرير
عصام كامل

ارحمونا

لا أدرى إلى متى ستستمر مصر غارقة فى قضايا جدلية سطحية لا تقدم ولا تأخر، ولا ترسخ سوى لتناحر وتراشق وتصنيف منبوذ، فى مشهد متكرر يوحى بأن هناك من يتعمد إثارة تلك القضايا لصرف نظر المصريين عن أحداث ومشكلات مصيرية تتعلق بالشأن العام. فالمتابع للأحداث خلال الشهور الأخيرة، يستطيع أن يتيقن أنه لا يكاد يمر إسبوع على هذا البلد وإلا وخرج علينا مجهول أو نكره أو مغرض بقضية جدلية مقيتة، تشطر المصريين إلى فئتين يتبادلان الشتائم واللعنات، لا تكاد تنتهى حتى تظهر قضية جديدة أكثر جدلا تدخلنا إلى ذات دائرة التغييب.

 

ولعل ما يدعو للعجب فى أمر تلك القضايا، أن أغلبها ضئيل وتافه وسطحى، ولا يتطلب معالجتها - بعقلية الأسوياء- أكثر من خروج متخصص أو مسئول للرد عليها وينتهى الأمر، دون الحاجة إلى تلك المعارك الساقطة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي.

 

للأسف أن المدقق فى الأمر يستطيع أن يكتشف وبسهولة أن التناول المتشنج من الاغلبية العظمى من المصريين لتلك القضايا يسير على العكس تماما من السلوك الرصين الذى تتبعه أغلب شعوب العالم في تناول قضاياها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاسيما وأن الجميع يعلم أن محرك تلك الفتن فى الغالب لا يخرج عن مواقع إلكترونية مغرضة تلعب على وتر الإثارة على حساب المجتمع من أجل تحقيق تريندات وقراءات عالية، أو مثقفون وشخصيات شهيرة يلقون بتلك القضايا عبر حساباتهم على فيس بوك وتويتر من منطلق الأنا وتحقيق مزيد من الشهرة، أو مجهول محترف يثيرها عمدا عن عبر كتائب إلكترونية تعمل بذات الاحترافية لأغراض لا يعلمها سواه.

 

غير أنه كان طبيعيا أن يشير البعض بأصابع الاتهام للحكومة واتهامها بالمسئولية والوقوف وراء إثارة أغلب تلك القضايا، لشغل الرأى العام عن قضايا سياسية واقتصادية داخلية تمس حياة المواطن المصرى، في ظل حالة اللاوعي التى يعيشها قطاع عريض من المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي، وجهل أغلبهم بمصادر إثارة تلك القضايا أو الهدف من نشرها.

 

للأسف أن الجدل الاسبوعى والمتصاعد الذى لا ينقطع بين المصريين حول قضايا وتصريحات يلقى بأغلبها عن عمد، يؤكد أن محركيها ينجحون بالفعل فى تحقق الأهداف المرجو منها، حيث يتلقفها الأغلبية العظمى رواد مواقع التواصل الاجتماعي -وبصرف النظر عن قيمتها أو أهميتها- ويبدأ كل منهم فى نشرها بالطريقة التى تتناسب وهواه، وخلال زمن قياسى تكون كل مواقع التواصل الاجتماعي قد اتخمت بتفاصيل مرافقة بتعليقات لا تخلو من معلومات مغلوطة وغضب وشماتة وسباب، تخضع كل منها لتجويد وايدولوجية كاتبها.

 

والغريب، أن الأمر لا يحتاج بعد النشر سوى لدقائق معدودة لانطلاق معركة الجدل الأسبوعية، التى تشطر المصريين في العادة إلى فريق مؤيد وآخر معارض، وسط حالة من الجدل والتصنيف والتراشق اللفظى المقيت الذى لا ينتهى سوى بإثارة قضية جدلية جديدة، تكون في الغالب أكثر  سخافة وسطيحة من سابقتها.

 

ولعل ما يدعو للأسف في أمر تلك القضايا أيضا، أن حجم الجدل فيها يصل إلى حد اضطرار  وزراء ومسئولين وهيئات بالدولة للتدخل سواء للإدلاء بدلوهم أو الرد حسما للأمر، غير أنهم يجدون أنفسهم في الغالب قد دخلوا كأطراف في بؤرة الجدل، ولا يسلمون من سهام النقد والسباب التى لا ترحم.

الواقع يقول أن حالة الجدل المؤسف التى تعيشها مصر تعكس مدى فشل إدارة ونتاج منظومة التعليم والثقافة والإعلام فى هذا البلد على مدار سنوات، للدرجة التى جعلت من قضايا سطحية تفرض نفسها بسهولة على مجتمع بأكمله، وتدخلة فى دائرة مفرغة لا تنتهي من الجدل، وتلقى بآثارها السلبية على الجميع.

 

 

يقينى أن خطورة الأمر باتت تفرض على الحكومة، ووسائل الإعلام، والمثقفين، ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، وكل مثيرى القضايا الجدلية، ضرورة مراجعة أنفسهم رحمة بالمجتمع المصرى، فقد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدَىً كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ» وصدق الإمام الأَوْزَاعِيِّ فى قوله"إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ شَرًَّا أَلْزَمَهُمُ الْجَدَلَ، وَمَنَعَهُمُ الْعَمَلَ".. وكفى.

الجريدة الرسمية