رئيس التحرير
عصام كامل

أصحاب ولا أعز.. وممارسة الاستعراء

الرمزية في خسوف القمر والتي ظهرت كحدث استهلالي في الفيلم تشير إلى مسألة نفسية تحدث عنها عالم النفس كارل يونج وهي القناع والظل، فثمة هلال مضئ وجميل يظهر للقمر، بينما يختفي جزء مخسوف منه لا نراه، وهكذا شخصية البشر عموما، يلبسون قناعا اجتماعيا ولكن هناك أشياء كثيرة يخفونها وراء هذا القناع، ونحن كبشر نحرص على أن يكون القناع الاجتماعي متماشيا مع العادات والتقاليد والأعراف والأخلاق، بينما نتحرر من أغلب هذه الأشياء في الجزء المخفي من شخصياتنا..

وربما في السابق لم تكن المسافات هائلة بين القناع والظل كما هي الآن بعد دخول الموبايل إلى حياتنا، حيث أصبح هذا الجهاز السحري الصغير كصندوق أسود لشخصية من يحمله، لأنه يحتوي على كل ما يفعله ويخفيه في الظل، ومن هنا يصبح الإطلاع على محتوى هذا الصندوق الأسود بمثابة صدمة للشخص إذ يرى باطنه الذي حاول بكل جهده إخفاءه عن نفسه وعن الآخرين، وصدمة أيضا للمحيطين به إذ يرون شخصا آخر غريبا غير الذي يعرفونه متخفيا وراء قناع خادع. 

 

سياسة نيتفليكس

 

وهذه التيمة الفنية أعجبت القائمين على شبكة نيتفليكس، فأنتجوا أول نسخة لهذا الفيلم باللغة الإيطالية تحت عنوان Perfect Strangers، وقد نجح الفيلم تجاريا وحقق أرقاما قياسيا في العرض مما شجعهم على إعادة إنتاجه بثمانية عشر لغة، وجاءت النسخة العربية رقم 19 في هذا الطابور الإنتاجي الطويل. 

 

ولمن لا يعرف سياسة شبكة نيتفليكس، فهي تضع شروطا للإنتاج الذي تدعمه أو تشرف عليه أو تنشره، وهى إظهار الجنسية المثلية كإختيار سلوكي طبيعي تسعى جاهدة لأن يتقبله الناس في الثقافات المختلفة، والتأكيد على حرية الفتى والفتاة في إقامة علاقات جنسية قبل الزواج، وأن هذا من حقهما ولا يجوز للآباء والأمهات حرمانهما من هذا الحق، وتصوير الخيانات الزوجية على أنها أمر حتمي في السلوك الإنساني، وعلى الجنسين قبول هذا السلوك والتعامل معه بهدوء، ثم الصدمة الثقافية، وذلك من خلال اختيار موضوعات صادمة ومفاجئة تهز وتزلزل المعايير والثوابت خاصة في المجتمعات التقليدية والمحافظة والمتدينة، وهذه الصدمة تحدث موجات متسعة من الجدل والرفض والنقاش والهجوم، وهذا يسهل من الإنتشار الهائل للعمل الفني ويحقق أرباحا فلكية.

 

إذن فالفيلم يهدف فعلا إلى التطبيع مع موضوعات بعينها، هي المثلية، والخيانة، وممارسة الجنس قبل الزواج، ويحدث الصدمة من خلال المفارقة بين القناع والظل من خلال لعبة الإطلاع المفتوح على محتوى التليفون المحمول لمجموعة من الأصدقاء وزوجاتهم يجلسون على مائدة عشاء، وتنكشف لهم حقائق مذهلة تجعلهم يكتشفون أنهم رغم صداقاتهم العميقة والممتدة لسنوات، يرون في لحظة الانكشاف والتعري النفسي أشخاصا غرباء لا يكادون يعرفونهم، ويتقززون من الحقيقة التي يرونها تحت القناع ولهذا يستعملون أكثر من مرة لفظا دارجا قبيحا لوصف بعضهم وهو ال"خرا" وهو يعني "الخراء" أو "البراز" باللغة العربية..

 

صدمة اجتماعية

 

صنّاع الفيلم كانوا حريصين على إظهار أسوأ ما في الشخصيات، بحيث تبدو في النهاية صادمة ومقززة للوعي العام وللثقافات والأعراف السائدة، وتحدث رؤية موازية بين هذا وبين ظاهرة خسوف القمر، وكأنها تريد أن توصل رسالة بأن هذا الاستعراء بمعنى كشف المستور والاستخراء بمهنى إظهار الجانب القذر والمقزز من الشخصية يظهرأن لنا حقيقة البشر التي يجب أن نتقبلها ونتعايش معها ونطبع حياتنا بها..

 

فالزوج عليه أن يتقبل خيانة زوجته، والزوجة كذلك، والأبوان عليهما قبول فكرة البوي فريند والجيرل فريند لأبنائهما وقبول ممارستهم للجنس قبل الزواج ومبيت البنت عند صديقها دونما أي تذمر، وإذا تذمر أحدهما فذلك يستدعي وصفه أو وصفها بالتزمت أو التسلط أو الحجر على الحرية الشخصية، وعلى الجميع ليس فقط أن يتقبلوا السلوك الجنسي المثلي بل يتعاطفوا معه ويحبوه ويعجبوا به.

 

ومن يشاهد الفيلم يستشعر أننا جميعا نعيش حياة مزدوجة كاذبة منافقة ومخادعة، وتهتز قناعاته بكل القيم والثوابت والأعراف، وربما يصل إلى نتيجة وهي أن الأخلاق والأعراف والمعايير والثوابت ما هي إلا شعارات كاذبة مصيرها إلى زوال كما زال في النهاية خسوف القمر. 

 

والفيلم تدور أحداثه كلها أو أغلبها على مائدة عشاء في بيت أحد الأصدقاء، وهذا المكان الثابت يحدث مللا لدى المشاهد، ولهذا يحاول المخرج الخروج من هذا المكان مرتين، مرة إلى الشرفة لكي نرى خسوف القمر لنتلقى الرسالة التي يلح عليها من هذا المشهد ومرة أخرى إلى الحمام لنرى قاعدة الحمام مقفلة على ما تحتويه أو تستقبله من "خراء"، ليؤكد على فكرة أن الأصل في الإنسان القذارة، وأن قاعدة الحمام الرخامية البيضاء ما هي إلا غطاء خادع يخفى محتوى قذر هو طبيعة الإنسان الأصلية.

 

 

ولا شك أن الفيلم أحدث صدمة اجتماعية وأخلاقية بسبب الحوار الاستعرائي المكشوف والاستخرائي المقزز على الرغم من عدم وجود مشاهد عارية أو ساخنة، وفي الحقيقة من الناحية النفسية فإن الألفاظ والمفاهيم العارية والقبيحة تكون أكثر تأثيرا من الصور والمشاهد العارية أو القبيحة لأنها تستقر في البناء المعرفي والوجداني بينما الصور تستقر في مراكز الحس وربما يعتريها النسيان بعد وقت قصير. 

والفيلم ضعيف فنيا، ولكنه سينتشر نظرا لما حواه من عوامل الصدمة والإثارة، وإذا كان فيه من شيء ذات معنى فهو تأثير الهاتف المحمول على حياة البشر وكيف أصبح هذا التأثير مهددا للعلاقات والأخلاق والنفوس بشكل يستدعي الانتباه واليقظة والمراجعة والصدق مع النفس.

الجريدة الرسمية