رئيس التحرير
عصام كامل

هل تمسح المحكمة الدستورية دموع رشوان توفيق؟ (1)

يتهادى إلى مسامعنا بين الحين والآخر حدث اجتماعى لأحد المشاهير يهز المجتمع، ويثير الجدل بين ما حدث وما كان يجب أن يحدث، ويثير كذلك التساؤل حول ما سينتهى إليه الأمر، ولا يعد ذلك الاهتمام المجتمعى من قبيل الفضول، إنما هو فى الحقيقة نموذج لحالات أخرى مشابهة تحمل فى طياتها آلامًا قد تفوق الحدث الشهير، وأول ما تتجه إليه الأنظار فى مجتمعنا هو حكم الدين فى المسألة، ثم حكم القانون، والذى تتبوأ عرشه المحكمة الدستورية العليا.

 

وآخر الأحداث الاجتماعية التى شهدها مجتمعنا هى مأساة استيلاء ابنة الفنان القدير رشوان توفيق على أمواله التى وزعها على أسرته ليطمئن عليهم وهو حى، فنالته طعنات أقربهم إليه، ولقى مالًا يرضاه الناس لمن كبر سنه وأبيض شعره، لا سيما وهو الفنان الخلوق الذى أمتع المصريين بأدواره المحترمة الهادفة، فأثار بذلك آلامًا وشجونًا لديهم، وجعل هذه الواقعة محل اهتمامهم، ولكن ماذا حملت المحكمة الدستورية العليا فى جُعبتها بشأن الحالات المماثلة لتلك الواقعة؟

 

قالت المحكمة الدستورية العليا عبر حكم مهم أصدرته فى 9 أكتوبر الماضى إن القيم الدينية والخلقية لا تعمل بعيدًا أو انعزالًا عن التقاليد التى تؤمن بها الجماعة، بل تعززها وتزكيها بما يصون حدودها ويرعى مقوماتها، ومن أجل ذلك جعل الدستور فى المادة (10) منه، قوام الأسرة الدين والأخلاق والوطنية، كما جعل الأخلاق والقيم والتقاليد، والحفاظ عليها والتمكين لها، التزاما على عاتق الدولة بسلطاتها المختلفة، والمجتمع ككل، وغدا ذلك قيدًا على السلطة التشريعية، فلا يجوز لها أن تسن تشريعًــا يخل بها.

 

 الاجتهاد المباح شرعًا

 

ونص البند "هــ" من المادة (502) من القانون المدنى، فيما تضمنه من اعتبار الهبة لذى رحم محرم مانعا من الرجوع فى الهبة، وأن وقع هذا النص فى دائرة الاجتهاد المباح شرعا لولى الأمر، إلا أنه فى حدود نطاقة المطروح فى الدعوى المعروضة يجعل الوالد الواهب فى حرج شديد، ويرهقه من أمره عسرًا، ويعرضه لمذلة الحاجة بعد أن بلغ من العمر عتيًّا، إذا ما ألمت به ظروف أحوجته لاسترداد المال الموهوب، وأمتنع الابن أو الإبنة عن إقالته من الهبة، إضرارا به، مستغلًا فى ذلك المانع الوارد بهذا النص الذى يحول بين الوالد والحصول على ترخيص من القضاء بالرجوع فى الهبة، ضاربا عرض الحائط بالواجب الشرعى لبر الوالدين والإحسان إليهما وصلتهما وطاعتهما فى غير معصية والامتناع عن كل ما يفضى إلى قطيعتهما.

 

وكان أحد المواطنين إقام دعوى قضائية فى غضون عام 2006 ضد هيئة البريد وإبنتيه أمام محكمة بورسعيد الابتدائية، طالبًا الحكم باعتبار الهبة كأن لم تكن، وقال إنه وهب لنجلتيه نصيبه فى تركة زوجته (والدتهما)، ويشمل حصة فى شقتين، ومبلغًـــــا ماليًا بدفتر توفير لدى الهيئة القومية للبريد، وشقة يمتلكها بالعقار ذاته، وحرر لهما توكيلًا بالتصرف فى تلك الأموال.

 

إلا أن ابنتيه أغضبهما زواجه من أخرى أنجبت له ولدين، فقدمتا ضده عدة بلاغات كيدية، كما أقامتا دعوى قضى فيها بإلزامة بأن يؤدى لهما نفقة شهرية، فضلًا عن أنه ملتزم بالإنفاق على زوجته وولديه، وكذا نفقة ومصروفات علاج شقيقه، مما أرهق كاهله، الأمر الذى يوفر له العديد من الأعذار للرجوع فى هبته، ودفع بعدم دستورية نص البند "هـــ" من المادة (502) من القانون المدنى، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع وصرحت له بإقامة الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى المعروضة فى بداية عام 2008.

 

 البر بالوالدين

وقالت المحكمة الدستورية العليا إن المدعى ينعى على النص المطعون فيه مخالفة أحكام المادتين (2، 40) من دستور سنة 1971، المقابلة لأحكام المادتين (2، 53) من دستور سنة 2014، لمخالفته مبادئ الشريعة الإسلامية، التى حضت على البر بالوالدين وعدم عقوقهما، وأكدت معظم مذاهبها على أحقية الوالد فى الرجوع عن هبته لولده، دون أية أعذار، فضلًا عن انطواء النص على تمييز غير مبرر، بأن منع الواهب لولده من الرجوع فى الهبة، حال أن غيره مــــن الواهبين يجــــوز لهم الرجـوع فى الهبة إذا توافر عذر يبيح لهم ذلك.

 

ومن خصائص الهبة أنه يجــوز الرجوع فيها رضـــاء أو قضاء إذا وجد عذر ولم يوجد مانع، وقد نظمها المشرع مراعيًا هذا الأصل، فأكد فى المادة (500) من القانـــــون المدنـــــى على أنه "يجـــوز للواهب أن يرجـــــع الهبـــــة إذا قبل الموهوب له ذلك، فإذا لم يقبل، جاز للواهب أن يطلب من القضاء الترخيص له فى الرجوع، متى كان يستند فى ذلك إلى عذر مقبول، وتأكيدا على جواز الرجوع فى الهبة، وضع المشرع فى المادة (501) من القانون ذاته أمثلة لهذه الأعذار تيسيرًا على القاضى.

 

كما حدد المشرع فى المادة (502) من القانون، حصرًا لموانع الرجوع فى الهبة، ومن بينها حالة الهبة لذى رحم محرم، ومن ذلك هبة أي من الوالدين لولده، ومؤدى العبارة الواردة بصدر نص تلك المادة من أن "يرفض طلب الرجوع فى الهبة"، نهى القضاة عن التعرض لموضوع الرجوع أيـا كانت الأعذار التى بنى عليها.

 

 

صلة الرحم

 

والبند (هـ) من المادة (502) من القانون المدنى، منع الرجوع فى الهبة لذى رحم محرم، وقد ورد هذا النص بصيغة عامة ومطلقة، ليشمل هبة أي من الوالدين لولده، واستقى المشرع هذا المانع من المذهب الحنفى، منتهجًــا بذلك نهجًــا مخالفا لاجتهاد باقى المذاهب الإسلامية، معللًا ذلك المانع بتحقق غاية الواهب من الهبة، ممثلة فى صلة الرحم، وقد صدَّر المشرع نص تلك المادة بعبارة: يرفض طلب الرجوع فى الهبة إذا وُجِد مانع.

 

 

ونهى القضاء عن بحث الأعذار التى قد تحل بالوالد الواهب وتستدعى رجوعه فى الهبة حتى وأن كانت تلك الأعذار من بين الأمثلة التى ورد النص عليها فى المادة (501) وهى: أن يخل الموهوب له بما يجب عليه نحو الواهب أو نحو أحد أقاربه، بحيث يكون هذا الإخلال جحودًا كبيرًا من جانبه، أو أن يصبح الواهب عاجزًا عن أن يوفر لنفسه أسباب المعيشة بما يتفق مع مكانته الاجتماعية، أو يصبح غير قادر على الوفاء بما يفرضه عليه القانون من نفقة على الغير.. وللحديث بقية.

الجريدة الرسمية