رئيس التحرير
عصام كامل

همسة في أذن وزير الداخلية

عُرفت التشريعات القديمة والحديثة قرينة قانونية هامة تُسمى قرينة البراءة، وهي أصل عام يُفترض في كل مُواطن، ولا بد لمؤسسات الدولة من احترامه، حتى لا يبقى المواطن أسيرًا للتهديدات، فاقدًا الشعور بالأمان الذي يتعين أن تكفله الدولة، ونطرح اليوم أحد أسباب فقدان ذلك الشعور، وهو تسجيل بعض المواطنين على قوائم المجرمين بأجهزة الحاسب الآلي التابعة للأمن العام بوزارة الداخلية بالمخالفة للحقيقة.

 

وقد يُدرك أغلب القراء خطورة ما نعنيه من تسجيل المواطنين بقوائم المجرمين، فكلما توقف في لجنة اتجهت عيناه إلى السماء داعيًا الله ألا يقع ضحية تشابه الأسماء، أو الأحكام الغيابية على أشخاص وردت أسماؤهم دون أرقامهم القومية، إلى آخر تلك الحالات التي سيرد ذكرها لاحقًا، ولا تقف مشاعر الرهبة عند اللجان بل تمتد لتصل للمتقدمين لوظائف في الدولة تستلزم التحريات عن أقاربهم، وتكشف التحريات أن أحد أقاربهم على ذمة قضايا جنائية.

 

وقد يتصور البعض أن مناط الحديث عن الأبرياء هم الأطباء والمهندسون  ورجال الأعمال وحدهم، ونحن لا نقف عند هؤلاء، فأغلبهم لن يعدموا الاتصال السريع بمن يحل لهم المشكلة ولو بشكل مؤقت، ولكن ماذا عن الحرفي والمزارع والطالب البسيط؟، وماذا عن الفقير الذي سيُحرم أهله من الداء والغذاء لتوفير أتعاب المحامي للبحث عن براءة ابنهم؟، لأن إلقاء القبض على بريء أو منعه من حقوقه القانونية يؤثر في أسرته وعائلته ومجتمعه الضيق، وقد شهدت أروقة دوائر القضاء الإداري بمجلس الدولة آلاف الحالات وبما يعني إمتداد الشعور بالتهديد لمئات الآلاف من الأبرياء، وبدون سبب قانوني.

 

سيادة القانون

 

تنص المادة (94) من الدستور على أن: سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة، وتخضع الدولة للقانون، وتنص المادة (95) على أن: العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون، والمادة (96) تنص على أن: المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.
 

والتسجيل الجنائي يجب عند إعماله مراعاة الأسباب القانونية المقررة بنصوص قانونية ملزمة سواء فى قانون العقوبات أو في قانون الإجراءات الجنائية ومنها الحكم ببراءة المتهم مما هو منسوب إليه والذي بموجبه تنقضي الدعوى الجنائية بالنسبة للمتهم المرفوعة عليه والوقائع المسندة فيها إليه عملًا بالمادتين 454 و456 إجراءات.
 

وفي هذا الشأن أرست الدساتير والوثائق الدستورية المتعاقبة حتى الدستور الحالي عددًا من المبادئ الدستورية، ومنها أن الأصل فى الإنسان البراءة، وأن صفة البراءة لا تزول عن الشخص إلا إذا أدانه القضاء، ومبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ومبدأ شخصية العقوبة فلا توقع عقوبة جنائية إلا على المتهم الذي ارتكب الجريمة، ومبدأ قضائية العقوبة فلا يعاقب الشخص جنائيًا إلا إذا صدر حكم من القضاء بإدانته.
 

الحرية الشخصية

 

وقد التزم المشرع إحترام تلك المبادئ، وكفل الدستور الحرية الشخصية لكل إنسان واعتبرها حقًا طبيعيًا، صونًا للحريات اللصيقة بشخص الإنسان على وجه يضمن عدم الإعتداء المادي عليها على خلاف أحكام الدستور والقانون، وفرض الالتزام بحماية الكرامة الإنسانية في مواجهة أي عدوان من أحد عليها، والتزام الدولة باحترام الكرامة الإنسانية وبحمايتها مترابطان ولا ينفصلان.

 

كما كفل الدستور لكل إنسان الحق فى الحياة الآمنة، وإلزام الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة لكل مواطن.. أو مقيم على أرض مصر، ومفهوم الحياة الآمنة التي لا يقتصر على الأمن في مواجهة العدوان المادي على الحياة أو الحرية أو الحقوق، وإنما يشمل الأذى المعنوي أو الأدبي الذي قد يعكر صفو حياة الإنسان.

 

مكافحة الجرائم

ووزارة الداخلية بوصفها القائمة على مرفق الأمن يجوز لها اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لحفظ الأمن ومكافحة الجرائم وضبط مرتكبيها، ومعرفة من اعتاد الإجرام، وتسجيل أسماء من صدرت ضدهم أحكام جنائية بالإدانة، إلا أن عملها كله في هذا الشأن يجب أن يتم طبقًا لأحكام الدستور والقانون، فالشرطة طبقًا لنص المادة (206) من الدستور: هيئة مدنية نظامية في خدمة الشعب، وولاؤها له، وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن، وتسهر على حفظ النظام العام والآداب العامة، وتلتزم بما يفرضه عليها الدستور والقانون من واجبات، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

 

وعند قيام أجهزة الشرطة بأعمال التسجيل الجنائي للمجرمين أو عند تسجيل المجرمين الخطرين يتعين ألا تتخطى السياج المحدد دستوريًا وقانونيًا لاحترام حقوق الإنسان وحرياته، فلا يجوز أن تخل بأصل البراءة المفترض في كل إنسان، ويحظر عليها أن تسجل اسم الشخص لمجرد تحرير محضر ضده، أو لاتهامه في قضية إذا كان الاتهام لا دليل عليه وتم حفظ التحقيق في شأنه أو صدر أمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ضده، أو إذا قدم الشخص للمحاكمة وقضى ببراءته، وفي كل تلك الحالات لا يتوافر سبب صحيح لإدراج اسم الشخص ضمن المسجلين جنائيًا.

 

ويتعين عدم إدراج اسم الشخص ضمن المسجلين جنائيًا إلا إذا صدر ضده حكم جنائي يتضمن إدانته في جريمة، والتزام جهة الإدارة بمحو أسماء من لم يتوافر سبب لإدراج أسمائهم ضمن المسجلين جنائيًا مفروض عليها إعمالًا لمبادئ الدستور وأهمها مبدأ أن الأصل في الإنسان البراءة، ولا يجوز أن يظل التسجيل الجنائي سيفًا مسلطًا فوق رقبة المواطن، يمنعه من الحياة فى أمان، ولا يصح أن يبقى موصومًا بما يشين كرامته وكرامة أسرته طوال حياته.

 

المعلومات الجنائية 

 

وقيام وزارة الداخلية بقيد محضر الاتهام بسجل المعلومات الجنائية  دون متابعة مصير المحضر وتسجيل ما تم فيه سواء بالحفظ أو بتقديم الشخص للمحاكمة والحكم عليه سواء بالبراءة أو بالإدانة حتى تكون المعلومات كاملة عن الموضوع، يحوّل مجرد الاتهام وقبل الحكم بقول فصل من القضاء في صحة الاتهام من عدمه إلى إدانة صاحب الشأن دون صدور حكم القضاء، ويظل الاتهام لصيقًا به طوال حياته يُطارده وذويه في حاضرهم ومُستقبلهم، وهو ما يخالف القاعدة الأصولية بأن المتهم برئ حتى تثبت إدانته.

 

 

ولا شك أن إلقاء عبء إثبات البراءة على المواطن يكبده الجهد والمال، فضلًا عن الوقت الذي قد يمتد لسنوات، ويكبد أيضًا وزارة الداخلية أعباء ملاحقة المواطنين الأبرياء واقتيادهم إلى أقسام الشرطة والتحفظ عليهم وعرضهم على النيابة العامة، ثم يتكبد مرفق القضاء التحقق مما كان ينبغي التحقق منه في عصر الميكنة  والتكنولوجيا "بضغط زر"، ويمتد العمل القضائي من النيابة العامة والقضاء الجنائي إلى قضاء مجلس الدولة ليصدر أحكامًا تُلزم وزارة الداخلية بمحو أسماء المواطنين الأبرياء،

لقد أصبحت الحالة ملحة إلى تنقية أجهزة الحاسب الآلي لوزارة الداخلية من المواطنين الأبرياء ومطلبًا اساسيًا يجب أن يحظى باهتمام السيد وزير الداخلية الذي أصبحت الوزارة في عهده مضرب المثل في العمل الجاد، وبقي أن تلعب التكنولوجيا  دورها ليهنأ المواطن المصري بقرينة البراءة.. وللحديث بقية

الجريدة الرسمية