رئيس التحرير
عصام كامل

مانشيتات قاتلة

كعادتي كل صباح، أسارع فور استيقاظي إلى باب الشقة، حيث أسكن في 5 شارع النور الدور الثاث الشقة رقم 7، فأمامه أجد مجموعة من الجرائد، يتركها لي صبي البائع.. آخذها وأغلق الباب، ثم أطالعها وأنا أعد القهوة.

قبل ثلاثة أيام، كان الصبي بانتظاري أمام الباب، أعطاني الجرائد في يدي وأخبرني أنها المرة الأخيرة، فصاحب كشك الجرائد أغلقه، معللا بأن أحدا لم يعد يشتري الجرائد: «الناس بتعرف الأخبار في ساعتها من الموبايل يا أستاذ.. وفيسبوك مخلاش حد يقرا».

 

 

اتذكر قبل أسبوع، حين ذهبت للكشك لأشتري كتابا كنت قد أوصيت الرجل أن يحضره لي، حينها وجدت لديه بعض إكسسوارات الهواتف المحمولة، «زي ما أنت شايف محدش بيشتري جرايد غيرك أنت و3 زباين كلهم على المعاش.. لو مغيرتش النشاط هنقرض زي الديناصورات يا بيه».

حريق العتبة

 

قبل يومين، وكعادتي التي تحركني كآلة، خرجت فوجدت جريدة واحدة أمام الباب، فقلت في نفسي ربما بائع الجرائد أرسل لي جريدة واحدة كنوع من تخفيف الجرعة حتى لا يقطع عني الجرائد كلها مرة واحدة، فهو يعرف أنني مدمن قراءة جرائد ورقية.

 

فارت القهوة وأنا مشغول بقراءة خبر عن حريق كبير شب في منطقة العتبة.. الضحايا بالعشرات والمصابون بالمئات.. أما الخسائر فتعدت عشرات الملايين، حيث احترقت المحال، ودب الخراب في بيوت التجار. مصمصت شفتاي، ثم ألقيت بالجريدة على التربيزة التي تتوسط المطبخ، وسكبت القهوة في الحوض، كي أصنع فنجانا آخر.

 

بعد الغداء، تمددت على الكنبة أمام التليفزيون، ورحت أصارع النعاس، وقد تسربت إلى مسامعي بعض الكلمات، إذ كانت المذيعة تتحدث عن حريق العتبة، مع عرض لقطات حية لما «كان يحدث»، وهي تقول: «الحريق دمر 30 محلا وتسبب في مقتل العشرات ومن بينهم أسرة كاملة رجل يدعى سالم عبدالعاطي المشرقي وزوجته وثلاثة أبناء». 

 

بينما النوم يخالط يقظتي، شممت رائحة حريق، فتخيلت للحظة أنني أحلم، لكن الرائحة كانت أقوى من مجرد حلم، فسارعت إلى المطبخ لأجد الجريدة تحترق.. هكذا وهي بعيدة عن اي مصدر للنار! لم استطع تفسير ما حدث، بل بالأحرى قررت ألا أشغل ذهني بالأمر، فمنذ وفاة زوجتي وأنا لا أهتم للحياة وما يدور فيها.

 

الجريدة المحترقة

 

أخذت دشا باردا، ثم ارتديت ملابس للخروج، إذ قررت أن أقضي سهرتي في أحد بارات شارع عماد الدين.. محل صغير جدا جدرانه مكسوة بالخشب.

وضع الجرسون أمامي زجاجة بيرة، ثم اقترب أحد الباعة ووضع كبشة فول سوداني وحفنة ترمس، ومد يده فمنحته بعض الفكة التي كانت تقبع في قاع جيب سترتي، ورحت أشرب من الزجاجة، إلى أن لفت نظري حديث رجلين يجلسان بالقرب مني، وهما يتكلمان عن حريق العتبة، ثم طلبا من الجرسون أن يرفع صوت التلفزيون حتى يتمكنا من متابعة الحريق الذي مازال مشتعلا.

 

ناديت الجرسون، وسألته: «هل مازال الحريق مشتعلا منذ الأمس؟!»، رمقني الرجل بنظرة استغراب وقال وهو يضرب كفا بكف: «امبارح إيه يا استاذ.. الحريقة دي النهاردة بقالها يا دوب كام ساعة وعربيات المطافي مش عارفة تعمل حاجة.. هو أنت بتسكر من البيرة ولا إيه؟». فركت عيني ثم رحت أحملق في الفراغ، وأنا أتساءل «كيف للجريدة التي يتم تحريرها بالأمس أن تذكر أخبار وتفاصيل حادث يقع اليوم؟!».

 

عدت إلى البيت، وعلى الفور دخلت الطبخ، فوجدت بقايا الجريدة المحترقة، مجرد قصاصة صغيرة محترقة من كل الجوانب وبها سطر وحيد مذكور فيه هذا الاسم «سالم عبدالعاطي المشرقي»!! ما الذي يحدث، هل أنا داخل حلم ممتد أم أن هذه الجريدة المحترقة مجرد وهم؟!

 

خرجت من الشقة متوجها إلى كشك الجرائد، وجدت صبي البائع يشرب كوبا من الشاي وسيجارة، فسلمت عليه وسألته عن الجريدة التي وجدتها أمام باب الشقة، فقال إنه لم يقترب من العمار التي أسكن فيها منذ آخر مرة أحضر لي فيها الجرائد، فتركته وذهبت إلى بيت صاحب الكشك لأسأله فلعل الصبي يكذب، غير أن الرجل أقسم لي على أنه لم يتسلم الجرائد من المندوب، بل وأن الصبي كان يزور أهله في المنيا منذ الأمس ولم يأت إلا قبل نحو ساعة.

 

غرق العبارة

 

عدت مجددا إلى البيت، وألقيت بنفسي على الكنبة، وغرقت في النوم، وحين استيقظت في الصباح، لم أفتح باب الشقة وذهبت مباشرة إلى المطبخ لأعد فنجان القهوة، لكن الغريب أنني وجدت جريدة على التربيز، بينما لم أجد اثرا للرماد الخاص بالجريدة التي احترقت.

 

فتحت صفحات الجريدة، فوجدت خبرا واحدا يتكرر فيها عن غرق عبارة في البحر الأحمر، ووفات أكثر من 1312 راكبا كانوا على متنها، إضافة إلى طاقمها البالغ 92 شخصا. طالعت التاريخ المدون على الجريدة، فوجدته 2 فبراير 2006، إنه تاريخ الأمس.. فسارعت إلى التلفزيون أتنقل بين محطاته لكنني لم أجد شيئا، فقط أغاني وأفلام وبرامج عادية، فتنهدت وارتميت على الكنبة، لكن سرعان ما قطع التلفزيون بثه وأذاع خبرا عن تعرض عبارة للغرق في البحر الأحمر.

 

نزلت إلى الشارع كالمجنون وأنا أحمل في يدي الصحيفة، فوجدت معظم المحال ومن فيها يتابعون الأخبار، فالعبارة فعلا غرقت ومات كل من كان عليها، بل إن الأرقام المذكورة في الجريدة تطابقت مع ما أذيع في الأخبار. كنت أكلم الناس في الشوارع عما حدث، وعن الجريدة التي تذكر الأخبار قبل حدوصها، فظنوني مجنونا، غير أنني لم أهتم وسارعت إلى قسم الشرطة، لأقدم بلاغا رسميا مدعما بالجريدة.

 

في القسم، كان العساكر يرمقونني بنظرات مريبة، حتى الضائبط الذي أتى ليأخذ أقوالي بناء على رغبتي، لك يجد إخفاء السخرية التي كست وجهه، وهنا انتفضت كثور هائج ومدتت يدي بالجريدة كي يقرأ ما فيها ويتأكد من صحة كلامي.

 

أمسك الضابط بالجريدة، ثم القاها جانبا وقال: «أنا ممكن أعملك محضر إزعاج للسلطات بس أنت شكلك ابن ناس.. روح اتعالج أو سافر لأي مكان هادي وغير جو». خرج الضابط، فأمسكت الجريد لأجد كل أوراقها بيضاء، لا كتابة فيها ولا حتى مجرد خط واحد بالأسود. وضعت راسي بين يدي، وأنا أحدث نفسي، هل جننت فعلا أم أن هناك شيئا خفيا يحدث!

ماس كهربائي

 

اليوم حين استيقظت ذهت إلى المطبخ فلم أجد شيئا، وحتى أمام الباب لم أجد أي صحيفة.. كنت اشعر ببعض الصداع، ما جعلني أتيقن من أن كل هذا ليس سوى حلم أو كابوس، فعدت إلى غرفة النوم كي أحصل على قسط أكبر من الراحة لعلي أتخلص من تلك الأوهام.

 

على السرير ارتميت، وحين رحت أعدل من وضع الوسادة لمست يدي شئيا، وحين تفحصته وجدته جريدة.. إنها الجريدة ذاتها وبها خبر واحد يقول «احترق رجل داخل شقته إثر ماس كهربائي»، وفي التفاصيل وجدت عنواني واسمي.

 

قمت مفزوعا وغادرت السرير، مسرعا إلى علبة الكهرباء المجاورة لباب الشقة، كي أفصل التيار تجنبا لحدوث الماس الكهربائي المزعوم، غير أنني سقطت وأنا أفتح باب العلبة والذي انخلع في يدي محتكا بمفايتح الكهرباء، فاشتعلت النيران فيها ثم سرعان ما انتقلت إلى كل ركن بالشقة، وحينها استسلمت مبتسما لقدري وأغمضت عيني.

الجريدة الرسمية