رئيس التحرير
عصام كامل

أنف مستعار

ربما كل شيء في حياتي غريب، لكن ليس هناك ما هو أغرب من أنفي. هناك تشابه بيني وبين أبي، فكل منا ولد عندما أكمل والده الخمسين من عمره، أي أن جدي أنجب والدي وهو في الخمسين، وكذلك ولدت أنا حين أكمل أبي عامه الخمسين. في اليوم الذي ولدت فيه نفقت سبع بقرات في حظيرة المواشي الملحقة بدارنا، وفرض الوالي ضرائب على كل خطوة يمشيها أي مزارع خارج نطاق أرضه، وصدر قانون بحظر تناول السبانخ..


أحداث وأمور فيها من المأساة والطرافة ما يجعلك تموت كمدا وأنت تضحك، ومع ذلك كان أنفي أكثر الأشياء مدعاة للضحك، فقد ولدت بأنف كبير داكن لا يشبه بشرتي الفاتحة، ويشغل نصف وجهي على أقل تقدير..

في البداية كانت أمي ترفض أن يراني من جاء مباركا، ثم ما لبس أن انكشف السر، وانقسم الناس إلى فريقين، أحدهما يتشائم مني والآخر يتبرك بهذا الأنف المكور، ويحكون لي مثلا أن سيدة أحضرت معها ابنتها التي تزوجت ولم تكن تنجب، ثم رفعت الغطاء عن وجهي، وحين رأتني الأبنة العاقر شهقت وصرخت كمن شاهد عفريتا، وهنا تبسمت أمها وقالت لها إن عقدتها قد حلت، ومن عجب أن الزوجة الشابة امتلأ بطنها بجنين في الليلة التي رأت فيها أنفي العجيب..

النقطة الفاصلة
وهكذا صرت حكاية كل يوم في كل بيت.. طفل الكرامات في حكاية والطفل جالب الخراب في حكايات. في الخامسة من عمري، بدأت أشم روائح غريبة لا يشمها غيري، أحيانا تكون روائح طعام أو جثة منتنة.. روائح مألوفة وغير مألوفة، لكن أحدا غيري لا يشمها أبدا. ذهبوا بي إلى الطبيب فقال إن أنفي عاديا جدا لا مشاكل فيه ظاهرة، غير أنه أبدى تعجبه من حجم الأنف الكبير ولونه الذي يختلف عن لون باقي جسمي، وطلب من أبي أن يأخذني لطبيب المدينة الكبيرة، فهناك قد يجدوا تفسيرا لهكذا أنف.

كانت النقطة الفاصلة في أمر أنفي، حين شممت رائحة وصفتها لأبي فقال إنها رائحة زهرة التامبو النادرة، وهذه الزهرة لم يجلبها أحد إلى بلدنا منذ سبعين عاما، فقد أحضرها جدي معه، عندما عاد من رحلته إلى الهند، فهي لا تنبت إلا في بلاد تركب الأفيال. كانت الرائحة تشبه رائحة خليط من الجوز والبرتقال وتوابل حارة تسمى زركود.. رائحة حين تشمها تشعر وكأنك تتذوقها بطرف لسانك.

ظل لغز أنفي بلا حل حتى وجدت صورة قديمة لجدي، هي الصورة الوحيدة المتاحة له، التقطت بعدسة أول كاميرا في التاريخ، وذلك حين كان في رحلة صيد عبر البحار، والتقى على أحد السفن رجلا يحمل صندوقا عجيبا، عرف في ما بعد أنه كاميرا فوتوغرافيا، وكانت الصورة ثمنا لسمكة كبيرة أخذها المصور من جدي.

بعد عثوري على الصورة بيومين، شممت رائحة جثة متعفنة في إحدى غرف الدار، فأخبرت أمي بذلك، لكنها حين دخلت الغرفة لم تجد شيئا ولم تشم أي رائحة، لكنني كنت مصرا حتى أنني صرخت في وجه أبي كي يفعل شيئا ليبعد عني هذه الرائحة، وهنا لم يجد الرجل حلا سوى أن يحفر أرض الغرفة، وعلى عمق مترين اكتشف مالم يكن يتوقعه.. إنها رفاة.. عظام رجل أو إمرأة..

طفل بلا أنف
لثلاثة أيام، ظل رجال الشرطة يحققون في أمر الجثة، إلى أن قال الطبيب الشرعي إنها لامرأة دفنت حية قبل سبعين سنة بالتمام والكمال، وباستجواب الجيران وسكان القرية من كبار السن الذين عاصروا السنة التي قال الطبيب إنها السنة التي قتلت فيها المرأة بعد فحص عظامها بالآشعة تحت الحمراء، قالوا إن امرأة واحدة دخلت هذا البيت ثم اختفت..

كانت جارة لجدي، وكانت كلما رأته عيرته بأنفه الكبير، ونعتته بما لا يحب من الصفات، وقالوا إنها كانت أقرب للجنون حتى أنها حاولت لأكثر من مرة أن تقطع أنف جدي.. حين سمعت ذلك تذكرت أمر الصورة، ففيها وجه جدي بلا أنف! إذا لقد قطعت هذه المجنونة أنف جدي بالفعل، ولهذا دفنها حية حتى يذيقها أليم العذاب، انتقاما منها.

أغلقت القضية، بعد أن ثبت أن كل أطرافها قد ماتوا لم يبق منهم شيئا.. لكن هذا ليس صحيحا تماما، فجدي وهو القاتل في هذه الجريمة لم يمت تماما، طالما أنه ترك أنفه في وجهي.. نعم أنفي هذا هو أنف جدي، وكل الروائح التي أشمها كانت هنا، إنني أشمها بأثر رجعي، لقد أورثني إياه، كما أورثني جريمة لم ارتكبها، ولم يعد أمامي للخلاص إلا أن أتخلص منه وأحيا كمسخ مجدوع يفر منه الناس.. في عقلي وحوش تتصارع، بعضها يريدني أن استمر بأنفي لأبقى الطفل صاحب الكرامات، على أن أتحمل عناء الروائح القذرة التي تداهمني من وقت لآخر، والأخرى تدعوني أن أنزع هذا الألم لأصبح المسخ المخيف.. طفل بلا أنف.
الجريدة الرسمية