رئيس التحرير
عصام كامل

بصيرة العالم.. وبصر المتعلم

نشرت الصحف والمواقع الإخبارية قصة وفاة الرجل الصالح، أقدم محفظ للقرآن الكريم بمدينة الأقصر، الذي انتشر له فيديو مؤخراً يتلو فيه القرآن الكريم قبيل وفاته وأثناء احتضاره متأثرا بإصابته بفيروس كورونا..

 

بعدما رأيت صورة هذا الشيخ الصالح وشاهدت الفيديو.. سرى في قلبي حنين لأيام مضت من حياتي، حين كنت طفلاً صغيراً أحفظ القرآن الكريم بأحد الكتاتيب التي كانت منتشرة لتعليم الأطفال القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة والحساب..

 

اقرأ أيضا: رسالة طمأنة.. من بلد الألف مئذنة

 

 حيث كانت تلك الكتاتيب أقوى في تأثيرها من تأثير أعظم وأفخم مدارس هذه الأيام ذات المصروفات الباهظة.. والتي يتنافس آباء اليوم لإلحاق أبنائهم بها للتفاخر والتباهي بين الناس.. ولو بحثت عن المردود الحقيقي لها لوجدت المحصلة النهائية لا تذكر.. فمستوى تعليم الأبناء فيها ضحل ويظهر من أول خطأ إملائي فاضح في كتابة الطالب وحتى من تخرج من الجامعة .. فبحكم عملي بالتدريس للطلاب في مراحل التعليم الجامعي وما قبل الجامعي  استشعر أمية وضعفا لغويا وثقافيا لا يحتمل لدى طلاب اليوم.

 

تذكرت قصة طريفة حدثت لي عندما كنت طفلاً صغيراً أحفظ القرآن الكريم في الكتّاب عند شيخ كفيف يشبه تماماً شيخ الأقصر المتوفي.. حيث كنت أتلو عليه الورد اليومي وأنا متأفف وحزين .. كوني أرى الأطفال في مثل سني يلعبون ويلهون.. وأنا مبتلى بالجلوس مجبراً في الكتّاب أحفظ وأتعلم.

 

اقرأ ايضا: كورونا بين التأويل والتهويل

 

فخطرت في بالي فكرة شيطانية تساعدني لكي أنتهي من التسميع بسرعة لألعب مع الأطفال مثلي.. وكان ملخص تلك الفكرة هي إستغلال كف البصر لدى الرجل وأقوم بفتح المصحف أثناء التسميع وأقرأ منه دون أن يدري شيخي.. بمعنى أدق لم أكن أدركه وقتها (أستغفله أو أستعميه).. لكي أنتهي بسرعة وألحق اللعب مع أقراني..

 

وكان من باب التحبيش لضمان نجاح الفكرة وإخراجها دراميا.. أن أجلس بعيداً عنه بمساحة كافية كممر آمن للهروب يمكنني من الهرب إذا ما انكشفت المؤامرة..

 

وأيضاً لا بد من تصنع بعض الأخطاء من حين لآخر أثناء التسميع كنوع من التمويه حتى لا يكتشف الشيخ الكفيف أمري ويعاقبني بالفلكة (اختراع قديم للتأديب اختفى مع ظهور الكمبيوتر والانترنت).

 

اقرأ أيضا: حروب الجيل الرابع.. خاصية التدمير الذاتي للشعوب

 

وما أن بدأت في تنفيذ المؤامرة بالتسميع ملتزماً بالحبكة الإخراجية محافظاً على المسافة الفاصلة بيني وبينه للهروب وقت الجد.. وملتزما ببعض الأخطاء والتوقف لتصوير المشهد وكأنني أتلو بدون النظر في المصحف.. نسيت وأخذتني الجلالة (مثل يوسف بك وهبي)  وبدأت في الإسراع حتى أنتهي بسرعة لألعب مع أقراني من الأطفال في مثل سني.. وتناسيت أني أفتح المصحف ونسيت أن أتصنع أخطاء مقصودة تحبك مؤامرتي على هذا الشيخ الكفيف..

 

وظللت أتلو وأتلو دون أخطاء وبسرعة.. لدرجة أني نسيت أن أتوقف.. لأنني بدأت ودون أن أدري في تلاوة آيات جديدة لم أحفظها من قبل.. وقد تنبه الشيخ لما يحدث.. وتركني أخذ راحتي مستمتعا بقرب نجاح مؤامرتي الطفولية الساذجة.. وكأنه لم ينتبه..

 

اقرأ أيضا: براعم وجمول.. وخراب العقول

 

وبدأ الشيخ في عملية كشف المؤامرة  ببصيرته الربانية التي لم أعيها في طفولتي.. ومستغلاً لحظة غفلتي الساذجة.. وبدأ يقترب مني بهدوء شديد دون أن أشعر به من فرط تعجلي وانشغالي بالقراءة.. لأنتهي بسرعة وألحق اللعب مع الأطفال.

 

وفجأة وجدت الشيخ الكفيف فوق رأسي ممسكا بيدي متلبسة بفتح المصحف.. فلا مجال للإنكار أو الاعتذار.. فالجاني قد تم القبض عليه متلبسا بسلاح الجريمة.. ونلت وقتها علقة ساخنة لا أنساها أبداً.. فقد تعلمت من هذا الموقف أموراً أخلاقية كثيرة جداً لا تكفي بضع مقالات للكتابة عنها.. شكلت وتشكلت معها شخصيتي وأثرت في حتى اليوم.

 

لقد اعتراني هذا الشعور بالحنين عند قراءة هذا الخبر.. ورؤية صورة الشيخ يتلو القرآن الكريم وهو يحتضر أحيت في نفسي ذكرى مواقف تربوية لم ولن تمحى من ذاكرتي أبدا..

 

الجريدة الرسمية