رئيس التحرير
عصام كامل

وزير التموين.. من الإحسان إلى "الأنعرة"


ليس غريبا على وزير التموين على مصيلحى -الذي وصف تعامل الحكومة مع المواطنين في منظومة الدعم بأنها من باب «الإحسان»- أن يصف من يحصلون على الدعم التموينى بأنهم "بيتأنعروا".


كلمات الوزير عن "مستحقى الدعم "المتأنعرين" لا أتصورها "زلة لسان" أو سوء تعبير لأنه مهد لها قبل أن ينطقها بجمل طويلة، بما يعنى أنه قالها وتعمدها، وكان ناويا وعازما عليها مع سبق الإصرار والترصد، بدليل أن نبرة صوته وهو يمهد لها كانت مليئة بالسخرية والاستعلاء معا، حتى تشعر أن الرجل وهو في منصب وزير أصيب بحالة "زهق وقرف" من الناس الغلابة، ومن المنصب، ومن صداع بطاقات التموين، ومن كل شيء.

ثانيا: الكلمة هي لحظة صراحة لرجل ظل أسيرا ومقيدا في أحاديثه البروتوكولية المنضبطة طوال شغله لمنصب الوزير، وقد يكون نما إلى علمه خروجه في التغيير الوزارى المرتقب، فأصبح كلامه خارج حسابات المنصب وأطلق للسانه العنان ليعبر عما يجيش في مكنون صدره، وعما خاف من البوح به وعجز عن التعبير عنه طوال سنوات وجوده في المنصب.

ثم.. ما قيمة الخمسين جنيه التي يعاير وزير التموين الغلابة من المصريين بحصولهم على مقابلها سلع؟ وهل لا يعلم سيادته أن هذا المبلغ الهزيل لم يعد يكفى لإفطار شخصين أو لشراء سندوتشين فول وطعمية، بل لم يعد يكفى لسداد فاتورة "قعدة" شخصين على أي مقهى بلدى؟

وهل لا يعلم أنها لا تكفى مصروفا يوميا لأحد أحفاده؟ ثم هل لا يعلم أن البقالين التموينيين الذين لا يستطيع فرض تسعيرة جبرية عليهم يبيعون للمواطنين السلع دون الأساسية بأسعار مضاعفة، بحيث تنخفض القيمة الفعلية للخمسين جنيها التي يتحدث عنها إلى 25 جنيها فقط، أي أقل من دولارين؟

سيادة الوزير.. ليس معنى إنك تتقاضى راتبا 42 ألف جنيه هي في الأصل أموال الشعب الغلبان الذي تهينه، وليس معنى أنك من الذين يرفلون في نعيم بحكم منصبك كوزير، أن تتهكم على الغلابة والمطحونين من هذا الشعب، والخمسون جنيها التي تعايرهم بها هي حق مشروع لهم وليست منحة أو حسنة أو عطية أو هبة من الدولة، فلسنا في زمن الأسياد والعبيد، ولا في دولة العبيد الذين يسبحون بحمد الأسياد، ويبتهلون إلى الله بالدعاء لهم كلما منحوا لهم شيئا هو في الأصل حق لهم.

ثانيا: دعم التموين البسيط الذي تمن على الغلابة به، ليس إحسانا من الدولة، ومن يطالبون بتحسين جودة السلع، لا "يتأنعرون" كما قلت، فمعظم دول العالم المتحضر تدعم مواطنيها ليس فقط بسلع لا يتجاوز سعرها دولارين كما في مصر، بل بسكن فخم ووظيفة محترمة وعلاج مجانى وتعليم راق ومتطور والأهم احترام آدمية مواطنيها وعدم إهانتهم أو التجريح فيهم.. فهل نحن مثلهم؟

ولمن لا يعرف أصل الحكاية، فإن كلام الوزير المسيء جاء في فيديو متداول على وسائل التواصل الأجتماعى، عندما كان يتحدث في المنوفية من على منصة مرتفعة، ويجلس أمامه عدد كبير من الناس أثناء وضع حجر أساس منطقة لوجيستية بقرية تابعة لمركز بركة السبع، حيث قال حرفيا "المواطن يذهب إلى منافذ التموين يطلع يقول لى أنا مش عايز الزيت ده.. أنا مش عايز السكر ده.. عايز زيت بيور.. سيلا.. مش عارف إيه.. إنت جاي تاخدلي الدعم وعمال تتأنعر".

كنت أتمنى من أحد الحاضرين من بلدياتى "المنايفة" أن يتناول حبة شجاعة ويطلب الكلمة ويعلن احتجاجه على الإهانة والإساءة غير المقبولة من وزير في موقع المسئولية، لكن ذلك للأسف لم يحدث، بل كان رد فعل كثير من الحاضرين مثيرا للدهشة وهو "الضحك" الذي ضجت به القاعة، ولست أدرى أي شيء مضحك في كلام رجل يهين المصريين، سوى فيروس ووباء النفاق "المقزز"..

الذي انتشر إلى حد الوباء، وأصبح مرضا يصيب الجميع، وأصبح ثقافة منتشرة "الضحك والتصفيق" على الفاضى والمليان وعلى ما يستحق ولا يستحق.

ثم كيف يصدر هذا الكلام الغريب من رجل شرقاوى، تخرج من الكلية الفنية العسكرية بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف في مجال الهندسة الإلكترونية، وحاصل على الماجستير والدكتوراه من جامعات أجنبية؟

قد يكون الرجل شبع من المنصب حيث كانت أمنيته أن يصبح وزيرا للاتصالات وليس للتموين ليتعامل مع الكبار و"علية القوم والشعوب"، لا مع المصريين المطحونين بحكم شغله لمنصب مدير شركة متخصصة في تكنولوجيا المعلومات لمدة 19 عامًا، وكبير مستشاري وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ثم رئيسًا لهيئة البريد، لكنه ضل طريقه لوزارة لايرغب فيها عندما تم تعيينه وزيرا التضامن الاجتماعي في زمن مبارك، ثم جرى استدعاءه لنفس الوزارة بعد ثورة يناير مرة ثانية.

"على مصيلحى" –حتى لا ننسى- هو عراب فكرة تنقية بطاقات التموين واستبعاد 1.8 مليون مواطن من منظومتها، بحجة أن لديهم سيارة أو تكييف أو راتب يفوق الـ 3 آلاف جنيه إلى آخره، ليثير سخط الناس الذين يعانون من الغلاء أصلا، إلى أن أمر الرئيس السيسي بمراجعة وإعادة من ثبت أحقيته للدعم.

من يعاقب وزير التموين إذن وقد أساء لبنى وطنه من المصريين، وأهانهم وحط من قدرهم وسخر منهم، ولماذا لم يتقدم أحد المحامين ببلاغ إلى النائب العام يتهمه فيه بالإساءة للمصريين؟ ولماذا لم نر برنامج "توك شو" ليلة الكلام المهين لوزير التموين أمس الأول يطالب بمساءلته، أو حتى يدينه أو يوجه له اللوم على إساءته للناس.

سيادة الوزير.. الملافظ "سعد".. وياليتك تنطق بما يُرضِى الناس ويطبطب عليهم ويواسيهم في معاناتهم مع الغلاء قبل أن تترك منصبك اليوم أو غدا أو حتى بعد سنوات، فالمناصب تزول ولا يبقى إلا السيرة الطيبة.

وأخيرا.. إساءة "على مصيلحى" لأصحاب الدعم التموينى هي إساءة للمصريين جميعا، وأظنها كبيرة ولا تستوجب الاعتذار فقط بل الإقالة.. وفورا.. كنوع من رد الاعتبار لملايين الغلابة الذين شعروا بالإهانة.
الجريدة الرسمية