رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

شتاء الروح !


إذا جاء الصيف بنيرانه، ورطوبته، وزحامه وانفلات أعصاب الناس، اشتقنا إلى الشتاء ووقاره ودفئه والتئام شمل الأسرة وأكواب السحلب والقرفة والشاي تطفو فيه حبات الفول السوداني!

واذا جاء الشتاء بكل هذه المسرات، وامتدت لياليه الثقيلة، وضاقت بنا حالة الركود والكمكمة، هتفت أرواحنا مشتاقة إلى السهر والسمر والزحمة ونسمات الليل ورطوبته حتى! كأنما نتحرر من البيات الشتوى إلى الانفلات الصيفى. عرفت نفسي تقلبات المواسم بعد أن عرفت مطارات العواصم.

أستعيد أول لسعة برد بحق وحقيق، تلك التي ملأت رئتي وأنا نازل لأول مرة من الطائرة في المطار بنيويورك.. كأنك في فريز تحت الصفر. ورائحة الثلج مع المطر مع الهواء مع الفراغ مع الخوف من المجهول، اجتمعت كلها لتستقر في الذاكرة بذات مكوناتها وتفاصيلها حتى الآن رغم مرور السنين. أستعيد تلك الرائحة ومنظر آخر هو الأشد أثرا والأعمق حفرة في وجداني.

منظر استقبال معالم المنصورة وأنت راكب القطار داخلا على كوبري السكة الحديد ونوافذ عربة القطار مخلخلة أو مكسرة، تفغم أنفك رائحة الهواء الطازج المبتل مع رائحة مازوت القضبان زمان.. تلسع صدرك هبات تهجم عليك منعشة حقا لكنها، سرعان ما تتحول لوخزات إبرية تشكشك في أعصابك، فتحتار كيف تستدعي الدفء.

تلك صورة كانت وستكون هي الأبقى وهي الأقرب وهي الأحب. المواسم الفصلية هي سنوات عمرنا. هنالك ارتباط سرى ما بين روائحها وتواريخها. تماما كما تستدعي ذكرياتك مع قصة حب أو ليلة حب، رائحة عطر لها أو لكما.

الشتاء البارد يولد الدفء الإنساني، والتقارب الروحي والبدني. تتلامس الأكتاف، وترتاح الرءوس على الصدور، وأصابع متعجلة تسحب الغطاء عليكما، وترتجف الشفاة بردانة وتسمع أصوات تكتكة الأسنان مع ضحكات قصيرة خاطفة.

لكن العدس الساخن أكثر سطوة من أي مشهد آخر. للعدس رائحة وبخار وقوام وطقوس. بلونه الكركمى، ومع صديقته الأثيرة، حلقات البصل، ومع رغيف بلدى ساخن، قل رغيفين، قل ثلاثة، وطبق يتلوه طبق، يصعب جدا أن تتذكر ما يحدث حولك في الدنيا، داخليا أو خارجيا. تنسى ترامب وأردوغان وأحمد إثيوبيا وغباءات التحريض. السخونة الناتجة عن طبق عدس بمثابة تحريض كامل على استدعاء خط الاستواء. طاقة وولع وتذوق.

بالرغم من كل هذه المباهج والمسرات... من روائح المطارات والمزارات وعطور اللقاءات وأطباق العدس، ولا تنس القلقاس والسبانخ، بالرغم من هذه المغريات يبقى الحزن قرين البرد والشجن قرين الشتاء والوحدة قرين الليل الطويل.

ليل الشتاء طويل، ملول، لمن فاته حبيبه، وهجره وحيدا، يحترق في نار الذكريات. نار لا تدفئ بل تلسع بإبر من حواف الجليد.
تلك التنهيدة الحارقة تغادر صدورنا، لعلنا نحصل على أنفاس تريح طبقة الرئتين الخانقة، لا تغادرنا إلا بطلوع الروح تقريبا.

طبقة الصدر وخنقة الروح وحرقة الشوق ومرارة الافتقاد واتساع الفراش ورعدة الاحتياج في عز الافتقار لمن ترك وهجر وغدر... آلام ما بعدها آلام. الشتاء لا يؤلم الجسد بالبرودة فحسب، بل يعذب الروح، ويوجعها. أصحاب الأرواح الطاهرة الحساسة فقط هم من يرون ليالي الشتاء المهجورة عذابا متصلا.

لا تعرف أبدا ما الصلة الوثيقة بين نشاط الذاكرة وتوهجها وليالى الشتاء؟ لماذا تهاجمنا الصور والأخيلة بل عطورها المتصلة بها، ونحن رهائن تحت الأغطية وتحت عقارب الثواني والدقائق، نتحرر من عقرب الثوانى فيدوسنا عقرب الدقائق.

ماذا يعذبك أيتها الروح؟ هل تستدعين أرواح الحبايب الذين سافروا وارتحلوا وعرفوا مكانهم الأخير والنهائي؟ لماذا تتجلى أشواق الروح مع ليل الشتاء؟ لماذا لا نعيش مرارات الفكر المشحون المغموس بالحزن والافتقار في شهور الصيف الطويلة؟
أيكون الشتاء محطة المراجعة والمحاسبة والتقاط الأنفاس؟
هو كل ذلك.
إذا كان الصيف للحب.. فالشتاء للحزن على رحيل الحب والأحباب.

Advertisements
الجريدة الرسمية